من الضروري النظر إلى الحوار بين الثقافات على أنه وسيلةٌ فعالةٌ لنشر قيم الفهم والتفاهم المتبادلين، ولإشاعة ثقافة التسامح وفضيلة التعايش بين جميع شعوب العالم. وهو الأمر الذي يجعل منه حواراً منتجاً، وحواراً فاعلاً مؤثراً في حياة الناس. فالحوار بين الثقافات بهذا المفهوم العميق الشامل، هو اختيار الحكماء الذي يساهم في تحقيق الأهداف النبيلة التي ترتقي بالإنسان، وتصنع التقدم، وتبني المستقبل. وهذا الضربُ من الحوار لا سبيل إلى تعزيزه، وتقويته، واستثماره، وجعله قوةَ الدفع للتنمية الشاملة المستدامة، إلا إذا كان للقيم المشتركة دور في تعزيز البناء الحضاري، والإنماء الاقتصادي، والإخاء الإنساني، وفي ترسيخ الانتماء إلى الأوطان. وبذلك تكون القيم المشتركة عاملاً مهماً لإنجاح الحوار بين الثقافات، وبناء القواعد للتقارب بين الشعوب المتعددة، ثقافياً وعرقياً ولغوياً ودينياً. ويرى المختصون من علماء الاجتماع، وعلم النفس وعلم الاجتماع السياسي، أن التطرف هو الميل عن جادة الاستواء في الفكر والسلوك، وفي التصور والممارسة، مما يعني أن التطرف هو الخروج عن طبيعة الأشياء التي هي الاعتدال، والوسطية، والتوازن، والتماسك، والحفاظ على منظومة القيم التي تسود في مجتمع ما، والتي هي منظومة مكارم الأخلاق بمفهومنا الإسلامي. فكلما وقع الانحراف عن هذه الأنماط من السلوك الإنساني، حصل الانحراف في اتجاه التطرف الذي يبدأ داخلياً، على مستوى الفهم المنحرف الذي يترجم إلى السلوك المتطرف، حتى يصبح حالة شاذة تدفع صاحبها نحو ممارسة التطرف الذي يلحق الضرر بالأفراد وبالجماعات على حد سواء، ويشكل خطراً جسيماً على سلامة المجتمع وأمنه واستقراره. ومن منظور العلوم السياسية، فإن التطرّف هو تعبير يستعمل لوصف أفكار أو أعمال أو ممارسات أو سياسات ينظر إليها على أنها مرفوضة وغير مبرّرة. فمن ناحية الأفكار، يستعمل هذا التعبير لوصم الأيديولوجية السياسية التي تعدُّ بعيدةً عن التوجه السياسي العام للمجتمع ومنافية له ومتعارضة معه، ومن ناحية الأعمال والممارسات والسياسات، يستعمل مصطلح التطرف في أحايين كثيرة، لوصف الوسائل والأدوات والإجراءات العنيفة المستعملة في محاولة فرض سياسة معينة بالقوة. وقد يعني التطرف استعمال وسائل غير مقبولة من المجتمع مثل التخريب، وهو الإفساد في الأرض في المصطلح الإسلامي، للترويج لأفكار ورؤى ومفاهيم وسياسات، بالإكراه والضغط والتهديد والإرهاب. وعندما يصل التطرف إلى هذه الدرجة من التفاقم والتأزم، يصبح تطرفاً عنيفاً يهدّد المجتمعات في أمنها، وينتهي إلى الإرهاب على تعدد صوره واختلاف دواعيه ودوافعه. ولذلك يرتبط التطرف العنيف بالإرهاب ارتباطاً وثيقاً، بحيث تكون البيئة التي ينشأ فيها التطرف في هذا الشكل، هي البيئة الحاضنة للإرهاب الذي هو، وبكل المقاييس، تحدٍّ بالغ الخطورة تترتب عليه تداعيات عديدة تواجه المجتمعات البشرية، شعوباً وحكوماتٍ في كل مكان. ولا يجوز إطلاقا ربط التطرف ولا الإرهاب بدين من الأديان، ولا بشعب من الشعوب، فهو حالة شاذة في الطبيعة الإنسانية، وجريمة تحرّمها الرسالات السماوية وتجرّمها القوانين الدولية. ولذلك فإن من الظلم أن يلصق التطرف بدين، وأن ينسب الإرهاب إلى شعب. بل إن في ذلك انتهاكاً للقانون الدولي يعبر عن نزعات الكراهية والعنصرية والتمييز الديني والعرقي والثقافي، بأوضح صورة. ولذلك لا يصح بأي حال، أن يقال «الإرهاب الإسلامي»، أو «الإرهاب المسيحي»، أو «الإرهاب اليهودي»، فهذا باطل أساساً، لأن الإرهاب جريمة بكل المقاييس، والجرائم تنسب إلى شخوص مرتكبيها لا إلى أديانهم أو ثقافاتهم. إن للتطرف تحديات واجبة المواجهة بقدر أكبر من الحزم والحسم وتضافر الجهود الدولية على جميع الأصعدة. وإذا كانت الوسائل المادية هي الأقوى تأثيراً في التعامل مع هذه التحديات ومواجهتها والحدّ من مضاعفاتها والتصدّي لمخاطرها، فإن هذه الوسائل لا بد أن يتم اعتمادها بالموازاة مع الوسائل الثقافية والفكرية والإعلامية، مع الاستناد إلى الخطاب الديني المعتدل الذي يتوجه إلى الضمائر لإحيائها، وينفذ إلى العقول لترشيدها وتوجيهها الوجهة المستقيمة، واعتماد تجديد الخطاب الثقافي والرسالة الإعلامية في موازاة مع تجويد الخطاب الديني. فالتعاليم الدينية والعوامل الثقافية لها تأثيرها الفاعل في القضاء على التطرف في كل أشكاله، أو في الحدّ من عنفوانه، وهي لا تقل أهمية عن العوامل الأخرى، على اعتبار أن التطرف يبدأ بالانحراف في الفكر والتصور والاعتقاد، والاختلال في التوجّه الثقافي، وأن الإرهاب ينطلق من فساد في العقيدة ينقلب إلى تطرف في الفهم والإدراك، وإلى انحراف في السلوك، وجنوح إلى ارتكاب الإجرام. ولذلك فإن تعزيز القيم المشتركة بين المجتمعات لمحاربة التطرف، هو من السبل التي تفضي إلى مواجهة الإرهاب وحصره ومحاربته والقضاء عليه. وهذا لن يتحقق إلا في ظل نظام عالمي عادل، لا تحكمه الأهواء والمصالح الضيقة، ولا تضطهد فيه شعوبُ العالم وتحرم من حقوقها من أجل رفاهية وتسلط عدد صغير من الدول الكبرى تتحكم في شؤون العالم وتوجهها لخدمة مصالحها وأطماعها. * أكاديمي سعودي
مشاركة :