غير القرآن نفوس أتباعه، وأحدث فيها زلزالا شديدا، فطهرهم من أدران الجاهلية ومفاسدها، وزكاهم بآياته التي يقرؤونها على كل حال، قائمين وقاعدين، ومستلقين ومضجعين، لا يكلون ولا يملون، حتى صار القرآن شغلهم الشاغل، يتلونه ويتدبرونه، وانصرفت همتهم مما كانوا مشتغلين به من مفاسد الجاهلية إلى حفظه واستظهاره، وتنافسوا في هذا الميدان تنافسا نقشه التاريخ على صحائفه بأحرف من نور. وكيف لا، والتفاضل بينهم ـ في الحياة والممات ـ بما يحفظون من القرآن؟! فأحق القوم بالصلاة أقرؤهم للقرآن، عن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء، فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فليؤمهم أكبرهم. وعن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟، فإذا أشير له إلى أحدهما، قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم. وكان قرة عين المرأة أن يكون صداقها بعض سور القرآن، فعن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، إني قد وهبت لك من نفسي، فقال رجل: زوجنيها، قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن. وكانوا يهجرون لذة النوم في الليل للقيام بالقرآن، فتجافت جنوبهم عن مضاجعها بالقرآن يقرؤونه في صلواتهم، وقد امتدحهم الله بذلك فقال: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون(السجدة: 16 ـ 17). وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكي فيهم هذه الروح الإيمانية العالية، فيمر ببيوتهم وهم نائمون يوقظهم إلى الاشتغال بالقرآن والصلاة. روى البخاري بسنده عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طرقه وفاطمة بنت النبي ـ عليه السلام ـ ليلة، فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته وهو مولٍ يضرب فخذه، وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا(الكهف: 54). ولولا ما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عظم فضل الصلاة في الليل، ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكنا، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون، امتثالا لقوله ـ تعالى ـ: وأمر أهلك بالصلاة(طه: 132). قال ابن بطال: فيه فضيلة صلاة الليل، وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة لذلك. بل كان من الصحابة من يقوم بالقرآن في ليلة واحدة، حتى طلب منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرفق بنفسه. عن عبدالله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته ـ بفتح الكاف، وتشديد النون، هي زوج الولد ـ فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: القني به، فلقيته بعد، فقال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم، قال: وكيف تختم؟، قال: كل ليلة، قال: صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام في الجمعة، قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: أفطر يومين، وصم يوما، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم أفضل الصوم، صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة، فليتني قبلت رخصة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذاك أني كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار، ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى، وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئا فارق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه. وكان من الصحابة من اهتدى إلى نور الإيمان بسبب سماعه لآي القرآن تتلى على مسامعه، كما هو الحال مع عمر بن الخطاب، ومع جبير بن مطعم وغيرهما. وكان بعض الصحابة الكرام يقوم الليل كله بآية واحدة، يرددها حتى الصباح، تأثرا بما حوته الآية من معان، وقد استنار الصحابة في هذا المسلك بقدوتهم وأسوتهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما سبق أن وقفنا عليه من خلال المبحث الخاص بالتأثير القرآني في النبي ـ صلى الله عليه وسلم. فقد ذكر الأئمة في قوله ـ تعالى ـ: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون([الجاثية: 21) عن مسروق قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، صلى ليلة حتى أصبح، أو كاد يقرأ آية يرددها ويبكي: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات(الجاثية: 21). وكان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها، حتى إنها تسمى مبكاة العابدين لذلك. وأخرج ابن أبي شيبة: أن الربيع بن خثيم كان يصلي، فمر بهذه الآية: أم حسب الذين... إلخ، فلم يزل يرددها حتى أصبح. وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري، من أي الفريقين أنت؟! ففي القرآن ما يستأنس به القلب ـ إن كان التالي أهلا له ـ فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره؟! منع القران بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع فهموا عن الملك الكريم كلامه فهما تذل له الرقاب وتخضع وانتقل التأثير القرآني من القلوب إلى الأجساد، حتى قالوا: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه، إشارة إلى سهره، وطول تهجده. وكشف ابن مسعود عن الصفات الواجب توافرها فيمن حمل القرآن، وتأثر به قلبه، فقال: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس يفطرون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون، وبحزنه إذ الناس يفرحون. وقيل لرجل: ألا تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي. قال الشيخ الزرقاني مصورا أحوال الصحابة مع القرآن: لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى، يسمع فيها دويا كدوي النحل بالقرآن، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكي فيهم روح هذه العناية بالتنزيل، يبلغهم ما أنزل إليه من ربه، ويبعث إلى من كان بعيد الدار منهم من يعلمهم ويقرئهم، كما بعث مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته يعلمانهم الإسلام، ويقرئانهم القرآن، وكما أرسل معاذ بن جبل إلى مكة بعد هجرته للتحفيظ والإقراء. قال عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ:كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخفضوا أصواتهم، لئلا يتغالطوا.
مشاركة :