أورهان باموق من الكُتَّاب الذين تمَّ تسليط الضوء عليهم، في الترجمة للعربية خصوصاً، بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب. وعلى رغم أنه ابنٌ لمجتمع استعمرنا خمسمئة عام؛ إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يدخل ضمن زمرة أصحاب المواقف الإنسانية؛ فكان من أوائل مُعارضي فتوى الخميني بإهدار دم سلمان رشدي، كما وقف ضد مذابح الأرمن والأكراد. ولكونه روائياً، ولكون الكثير من الروائيين من قبله كتبوا حول الرواية وتنظيراتها، وكان من أبرزهم كونديرا ويوسا وماركيز؛ فقد أحسَّ وكأن الدور قد أتى عليه. هذا ما يطرحه في كتاب «الروائي الساذج والحسَّاس»، الصادر أخيراً عن دار الجمل، في بيروت، بترجمة ميَّادة خليل. يقول في المقدمة: «هذا الكتاب هو كلٌ مُتكامل يضم معظم الأشياء المهمة التي عرفتُها وتعلمتُها عن الرواية». نحن إذن أمام رحلة بحث عن المعرفة الروائية – إذا جاز التعبير - قام بها المؤلف عبر تجربته في الكتابة الممتدة لسنوات، ولما خرج بمحصلته النهائية تلك، رأى في التجربة تمثيلاً تمَّت مناقشته من قبل، فأقدَم على إلقاء محاضرات عدة في جامعة هارفارد عام 2009، وهي فصول الكتاب؛ مُكملاً فيها – بمفهوم أعمق - نظرية شيلر التي كتبها في مقاله «عن الشعر الساذج والحسَّاس». فقد وصف شيلر الشعراء المُلهمين بالسُذج، بينما الباحثون عن الكتابة وآلياتها المتغيرة ويفعلون فيها كما ينفعلون، فهؤلاء هم الشعراء الحسَّاسون. وعليه، فمن باب أولى؛ كما رأى باموق، تطبيق هذا التصنيف على الروائيين، ومن ثم على القُرَّاء أيضاً، حتى ينتهي إلى الإنسان على وجه العموم. في البداية، يحاول رؤية الكيفية التي تعمل بها عقولنا عند قراءة الروايات؛ لا سيما وهي التي تكشف لنا تعقيدات الحياة بين البشر تحديداً وتلوناتهم المستمرة، بعوالمها الحُلمية وأحداثها الخيالية المنسابة بواقعية أكثر من الواقع نفسه، كما يقول. الرواية عند باموق بمثابة «حياة أخرى»؛ للمتلقي المباشر أو المُستهدف بالأساس، ولكن مع الكاتب ستكون الحياة في مكان آخر، كما قال كونديرا، تُجاريها تساؤلات عدة طوال الوقت مثلها مثل أسئلة الوجود الإنساني، لكنها تخضع لقانون الرواية أو العمل الفني. ما الذي يدور في عقولنا عند قراءة الروايات؟ ولماذا نقرأها من الأساس، ما الذي يشغل بال الروائي أثناء الكتابة؟ كيفية التخطيط للرواية وعملية اختيار المحور والموضوع؟ المساحة بين الحقيقة والخيال في العمل الروائي، ثم من هو الروائي الساذج ومن هو الحسَّاس؟ نجد أن المحور الذي تدور حوله فكرة «الرواية» نفسها ويُشكلها في الوقت نفسه هو الرؤية؛ والرؤية في العموم هي روح الوجود الإنساني. حتى الروايات الخيالية لا بد أن تحمل رؤية ما، أو بصمة، يُمررها الكاتب عبر عالمه لتشتبك مع الحياة. الجميل في ما صنعه باموق عند هذه النقطة؛ هو أنه وضع القارئ أو المتلقي موازياً في استقبال هذه الرؤية. فبينما فِعلُ الكتابة هو بمثابة التوغل المُتدرج في الغابات؛ كوصف المشاهد أو الوقوف عند أحدها وتفصيلات الشخصيات والأماكن، وجد أن قراءة المتلقي تأخذه في الطريق نفسه، وإن كانت علامته من قبيل البحث في ما وراء كل مشهد وكل شخصية وكل كاتب أيضاً عن رؤية الحكي. وعلى هذا، فإن هذه الرؤية تعتبر سقفاً عاماً أو أعلى في الرواية يجب أن توجد تحته أعمدة عدة تحمله وتتكئ عليه في الوقت نفسه في صورة الحبكة الروائية، الشخصية، الزمن، وتكوينات الرواية كافة؛ فالجدية التي نفعلها في سن الشاب في تلقي عالم الرواية، تجعلنا نرى أن حيواتنا لا تقل أهمية عما يتم سرده تاريخياً. من أجل ذلك، يتناول باموق روايات عدة ويستحضرها لإظهار فكرة الشخصية الروائية ومدى تأثر المتلقي بها وبعالمها ورؤيته لها تمثيلاً للحقيقة التي يريدها. والفارق بين «الكُتاب اللفظيين»، و «الكُتاب البصريين»، كما سماهم؛ فأيهما أقرب إلى الحقيقة: الكلمة أم الصورة؟ كما أراد باموق تشييد جسر طردي بين الرواية والمتاحف. لماذا المتاحف تحديداً؟ يروي أنه في الثمانينات وأثناء ما راودته فكرة إنشاء متحف وبدأ في تنفيذها بالفعل؛ كان يكتب إحدى رواياته، ووجد نفسه تدريجاً يجمع أشياء قديمة من الأصدقاء ويشتريها من أماكن تبيع الأنتيكات ليمتلئ المكان من حوله. هذه الأشياء تصوَّر أنها تناسب استخدامات عادية لعائلة تعيش في الفترة من 1975 إلى 1984؛ زمن سرد روايته. وبالتالي، فالرواية تبحث عن متحف تستطيع حفظ أشياء داخله كخزان يضخ وقت الطلب بالحياة؛ ومن ثم بمجرد انتهاء كتابة الرواية ستتحول جزءاً من المتحف ذاته. لم يفته أيضاً عبر رحلة البحث داخل غابات الرواية أن يناقش ببعض المعايير – الحُكمية – كيف نحكم على القبيح والجميل، الحقيقي والزائف، المتميز والتقليدي، خارجاً من تميز الفرد في سياق اجتماعي إلى حيز التميز الإبداعي؛ الروائي منه تحديداً، في الوقت الذي يتميز فيه الكاتب عن الآخرين بالكتابة، يتميز القارئ/ المُتلقي هو الآخر كونه يقوم بفعل القراءة في حد ذاته، عن الآخرين. في الفصل المعنون بـ «سيد باموق»، يرد السؤال: هل حدث هذا معك؟ يعرض الكاتب تجربته مع رواية «متحف البراءة» الصادرة في العام 2008، فأحداثها تدور حول رجل يُدعى «كمال»، غارق في الحب على حد تعبير باموق. لكن لفت نظره أنه فور صدور الرواية تلقى من القراء السؤال التالي: هل أنت كمال، الشخصية الموجودة في الرواية؟ اعتبر الكاتب أن سؤالاً من هذا النوع لن يأتي إلا من قارئ ساذج؛ فهو ليس «كمالاً»، وفي الوقت نفسه لن يستطيع إقناع القراء بغير ذلك... القراء الذين يشغل بالهم مثل هذه الأسئلة أثناء تلقي العمل الفني أو الرواية. هنا يُطبق باموق نظرية شيلر عن الشعر في شكل أوسع؛ محاولاً إيجاد فارق واضح بين القارئ «الذكي» والقارئ «الحسَّاس»؛ فالأول لا ينشغل بما إذا كان الكاتب يروي أحداثاً حقيقية أم خيالية، حدثت بالفعل له ومر بها أم لا، ناسياً الغرض الأول من فعل قراءة العمل الفني؛ حيث هم الاستقراء هو الاهتمام بتقنيات طرح الرواية وجماليتها وحبكة الحكاية وتحريك الشخصيات... هذا هو المرجو من قراءة الرواية. كانت محاولات باموق لطرح إشكاليات الفكرة في صورة ثنائيات متضادة، صائبةً إلى أبعد حد؛ فبين الثنائيات قامت الحياة بكل تفاصيلها؛ الخير والشر، النور والظُلمة، الموت والحياة... لا سيما أن الرواية حياة أخرى لا بد لها من أقطاب لبيان رؤيتها. ما بين «السذاجة» و «الحساسية»، يعزف باموق لحناً مُغايراً لم يختص به ثالوث فعل القراءة فقط؛ «الكاتب والكتابة والمُتلقي»؛ بل طبَّقه على الإنسان عموماً، وكأنه يُذكرنا بثنائية «الخفة» و «الثقل» التي طرحها كونديرا في رائعته «كائن لا تُحتمل خفته».
مشاركة :