أمين معلوف كاتب كبير ووجه من وجوه الثقافة الإنسانية، سخر نصف حياته في الكتابة الروائية مدافعًا لا عن الحق العربي ولكن الحق الإنساني ضمن نظرة أكثر شمولية، يتماهى العربي في الإنساني ويذوب فيه، حتى ما يحدث في العالم العربي من اختلالات يندرج بالنسبة للكاتب ضمن هذه الرؤية التراجيدية التي لم يستطع فيها العرب أن يجدوا مكانهم في عالم غير عادل، أقصاهم، لأن الصراع العربي الإسرائيلي يتحكم في هذه المعادلة. رؤية يتساوى فيها الجميع أمام الشأن الإنساني. أمين معلوف ليس باسكال بونيفاس الذي يحارب حركة صهيونية لا ترى إلا ما تريده، ولا تعترف إلا بنفسها أو ما يسير في مسالكها. في كتابه (المثقفون المزيفون) كان صريحًا ضد هذه العدمية الجديدة، مما وضعه إعلاميًا في دائرة العزلة في بلده، وليس برنار هنري ليفي، الذي يدافع بانتماء حقيقي للحركة الصهيونية، عن النموذج الإسرائيلي في الديمقراطية، ويتهم بشكل معلن من لا يؤمن بأطروحاته، باللاسامية، ويستميت بالمقابل في إظهار الفلسطيني المقاوم، في صورة القاتل البائس الذي لا يعرف قيمة المجتمع الديمقراطي الإسرائيلي الذي يعيش فيه. وكتابه الأخير روح اليهودية يدافع عما منحته هذه الروح للإنسانية، من خلال سؤال هو مسار الكتاب: لماذا اليهود منتصرون إلى الأبد، وكيف أن مملكة العبرانيين كانت وراء فكرة الجمهورية بالمعنى الفرنسي، وكيف أن أحد التلموديين كان وراء اللغة الفرنسية، وغيرها من الأفكار التي تلغي التاريخ البشري وتجيّره لديانة واحدة مع عمى كلي تجاه ما قدّمه إسلام الأنوار للبشرية. خرج عن سياق الفلسفة ليدخل في عرقية مقيتة وأصولية دينية ضيقة وانحطاط فكري مسبق. لكن له على الأقل احترام الدفاع عن قضية يراها حيوية بالنسبة لإسرائيل بإعادة تصنيع التاريخ البشري. أمين معلوف لا يقع على الطرف النقيض، لا يجادل هذه الأطروحات، وفلسطين لا تشكل بالنسبة له رهانًا أو قضية، ولكنها تندرج ضمن أفق إنساني هلامي، فكرة الدولتين، تم الاعتراف بإسرائيل، لكن ماذا جنت فلسطين غير المستعمرات الإسرائيلية التي أكلت جزءًا كبيرًا من الضفة، حتى نقد اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يحكم إسرائيل لا ينتقد لا عربيًا ولا حتى دوليًا. هل قال أمين معلوف غير هذا في حصة إسرائيل 24، في حلقة 3 حزيران 2016، التي دافع فيها عن كتابه الجديد الذي يستعيد فيه أوجه من سبقوه إلى كرسي الأكاديمية الفرنسي؟ هذا جوهر اللقاء. ما صرح به لا يخرج عن رؤية عربية استشراقية معروفة أصبح العرب أنفسهم من يقوم بإرسالها للغرب وفق مشتهاه ومقاييسه. الموقف من الإرهاب الإسلاماوي مدخل للسجالية. طبعا الإرهاب جريمة ولا يمكن أن يقبل أو تبرر أفعاله التي أدمت العالم والعالم الإسلامي تحديدًا وما تزال تدميه إلى اليوم ورجعت به إلى القرون الوسطى. لكن لهذا الإرهاب تاريخ وصيرورة وليس حدثًا عابرًا في الزمان والمكان بدون أسس. من المؤكد أن الدكتاتوريات العربية الظالمة تتحمل المسؤولية الكبرى، لكن مسؤولية الغرب، تحديدًا أمريكا وأوروبا أساسية، من درّب؟ ومن نظّم؟ ومن أرسل؟ ومن وفّر المال والسلاح؟ يحتاج الأدب أيضا أن يخرج المرآة الأخرى، لكي يرى فيها الغربي أخطاءه وحماقاته وحساباته الضيقة التي جيّرت العالم العربي لمصالحها فقط، وكأن الآخر غير موجود، فأنهكته حتى حولته إلى لا شيء. أمين معلوف يرى ما يراه في أفق إنسانيته التي تأخذ نتائج القضايا أكثر من صيرورتها وعناصرها المحركة بحيث أن ما يكتبه يظل أملس، لا يؤذي حركة الانزلاق، على العكس من «ليفي» أمير الحروب العالمية والعربية الذي يدافع عن إسرائيل باستماتة. من هنا اعتمدت المحاورة على إثارة التيمات العامة التي تنتصر للعقلانية والتنوير وحوار الثقافات على حساب التعصب الديني والتطرف الأعمى، لا أعتقد أن وزير الدفاع الإسرائيلي أقل تعصبًا من البغدادي أمير داعش، الفرق في الدين فقط، أما العقلية الإبادية واحدة، لقد استقال موشي آلون وزير الدفاع الإسرائيلي، وتبعه وزير البيئة في حكومة نتنياهو بسبب الخطر الذي يشكله ليبرمان رئيس حزب بيتنا المتطرف، الحصة كانت موجهة وهو أمر طبيعي، وفق خط مديرها فرانك ملّول الذي لا يخفي تعاطفه مع سياسة الليكود العنصرية ويعمل على تبييض سياستها الإجرامية تجاه الفلسطينيين، وإظهارها كدولة ديمقراطية في منطقة عربية متوحشة. وهي تبث بثلاث لغات، الفرنسية والعربية والانكليزيّة. القبول بالآخر ليس خطأ في حد ذاته، ولكن هل الآخر يدخلك في حسابه عندما تكون رؤيتك مناقضة له؟ لقد اعترفت أوسلو بإسرائيل، لكن هل اعترفت إسرائيل بالحق الأدنى للفلسطيني؟ كل ما فعلته أنها حولت الضفة وغزة إلى سجنين واسعين. هل مطلوب من أمين معلوف أن يكون على الطرف النقيض؟ لقد مر في الحصة، واستعرض تفاصيل كتابه الجديد (كرسي على نهر السين) الذي استرجع فيها تفاصيل حياة ١٨ شخصية سبقته إلى ذلك الكرسي. هذا انشغاله الأساسي في الحصة. هل نلومه على ذلك، أم على قبوله دعوة قناة إسرائيلية i24؟ أم على حلم نوبل الذي يمر حتمًا عبر سلسلة من الاسترضاءات المسبقة؟ أمين معلوف لم يخالف أمين معلوف، روائي تاريخي كبير، في عمق معادلة الصراع شرق غرب، لكن في ماضيه، لا في حاضره الشديد القسوة.
مشاركة :