تجمعت الأسباب ليكون استمتاعي بالفيلم كاملاً... وصلت في الوقت المناسب، فثوان بعد احتلالي المقعد الوحيد ربما الذي بقي خالياً في القاعة الكبيرة التي غصت بالجالسين، افترش جمهور من الشباب والشابات أرض الممرات كما كل فسحة ممكنة أمام الشاشة. لم يكن هذا لأن بطلة الفيلم المعروض الماراتي اللغة الهندي الجنسية قد نالت تنويها من لجنة تحكيم الجوائز الوطنية للسينما الهندية. فالفيلم الفائز بجائزة «أفضل فيلم ماراتي» لم يحظ بنصف هذا الحضور، على الأقل في هذه الصالة. لكن ذلك، كما قالت لي جاراتي الجالسات بجانبي بعد أن أبديت دهشتي من هذا الازدحام لفيلم غير ناطق بالهندية، لأن سمعة « سايرات» قد سبقته. فحين عرض هذا الفيلم في ولاية «مهاراشترا» الهندية احتل قلوب الناس وأثار مشاعرهم وحطم الإقبال عليه الرقم القياسي في نسبة التردد على فيلم ماراتي، وهكذا حقق خلال ثلاثة أسابيع من عرضه في بداية أيار (مايو) أكثر من تسعة ملايين دولار! مهرجان وطني موارب كانت المناسبة عرض الأفلام الفائزة بجوائز الدولة، نوع من مهرجان وطني للسينما الهندية القادمة من مختلف ولايات الهند. تتيح تلك الجوائز فرصة ذهبية للناس للاطلاع على أفلام يصعب على معظمها الوصول إلى صالات العرض التجارية، فهي ناطقة بلغات محلية ولا تنتشر في معظم الأحوال خارج حدود ولايتها. من المعروف أن صالات العرض في شتى أنحاء البلاد تُكّرس تماماً لسينما بوليوود الناطقة بالهندية والمنتجة في استديوات بومباي ذات الإمكانيات الضخمة، (مع أن لغة ولاية مهاراشترا التي عاصمتها بومباي هي الماراتية وليست الهندية). السبب الثاني للاستمتاع كان الجمهور، فحضور أي فيلم مع جمهور كهذا يشكّل متعة في حدّ ذاتها. إنه جمهور يسكن نيودلهي لكن أصوله من مهاراشترا وقد وجدها فرصة نادرة لحضور فيلم ناطق بلغته الماراتية ويعرض في العاصمة. يبدو، بحسب المصادر إياها والواردة أعلاه، أن هذا الجمهور معروف عنه تفاعله الصاخب والمرح مع أحداث الأفلام. منذ اللقطة الأولى بدا هذا جلياً! كانوا مستعدين للانفعال الفوري، فما إن ظهرت البطلة، مع أنها غير معروفة، حتى بدأ التصفيق والصفير والهرج المحبب... أما السبب الثالث والأهم للاستمتاع فكان الفيلم ذاته، وهذا على رغم أنه يتناول قصة حب تقليدية بين فتاة غنية وشاب فقير، لكنها في الهند هي قضية أشدّ تعقيداً منها في بقية البلدان بسبب التراتب الطبقي المتعارف عليه منذ الأزل. ومع محاولات الدولة الهندية الحدّ منه عبر التمايز الإيجابي، تبقى العلاقات بين طبقتين اجتماعيتين مختلفتين ليس بالضرورة في الناحية المادية محكومة بالعرف، فالقرارات والقوانين شيء وعقلية الناس وعاداتهم شيء آخر. لا نجوم ولا رومانسية «ساــيــرات» أو الـــوحش للمخرج ناغراج مانجول يعيد النقاش حول هذه القضية، لا سيما في جزئها المتعلق بالزواج بين الطبقات المختلفة من خلال رسمه لوحة لشابين متحابين يتحديان التقاليد. لوحة بعيدة عن تقاليد السينما البوليوودية في الرومانسية والمبالغة في العواطف وهذا ما أعطى السرد قوته. يقدم المخرج فيلما منوعا فيه الحب واللهو والقسوة والوحشية والكفاح، مبرزا مدى تسلط الطبقة العليا لاسيما في الريف، على الأهالي ومدى ضعف هؤلاء وقلة حيلتهم أمام جبروت التسلط. صور المخرج الفيلم في قريته في ولاية مهاراشترا واستعان ببطلين لم يظهرا من قبل ما زاد في تأثير القصة وفـي الانغماس فيها لدى الجمهور وكأنه يشهد حكاية واقعية لأناس من حوله، ليسوا نجوماً وليسوا معروفين. انقسم «سايرت» إلى نصفين تماماً، حفل الأول بالمواقف الطريفة والمرحة التي تصور محاولات شاب ابن فلاحين معدمين للتقرب من محبوبته. ويا لها من محبوبة! ليست فقط شديدة الجاذبية ومتمردة وذات شخصية قوية متحدية تعرف ما تريد ولا تخضع لأحد، بل هي ابنة نائب القرية المتنفذ الغني والمتحكم... لكن الحب لا يخضع لقانون وقد جمع بين المراهقين. هنا جاء النصف الثاني ليعكس أجواء مختلفة حفلت بالمعاناة والتعذيب اللذين يخضع لها الشابين لتفريقهما، مع إدانة واضحة لنظام التراتب الطبقي. هنا سيطر على الجمهور سكون شديد لم يخل أحياناً من صيحات استنكار للتعامل الفوقي والوحشي لوالد الفتاة وشقيقها مع الشاب وأهله وحتى بقية سكان القرية. إيقاع لاهث في سلاسة شديدة وإيقاع سريع بل لاهث أحياناً تستمر أحداث الفيلم لحوالى الثلاث ساعات، قصة لا أكثر تقليدية منها ولكنها حافلة بمواقف مبتكرة في طرافتها أو في شقائها وبحوار ممتع وإدارة متمكنة للممثلين ما أعطاها أبعاداً جديدة وعمقاً. هنا لا بد من ذكر البطلة «رينكو راج غورو» بأدائها اللافت وهي وإن لم تتحلَ تماماً بجمال ممثلات السينما البوليوودية، فإن حضورها وأداءها كانا من القوة بحيث أن صورتها في مختلف انفعالاتها السعيدة والمتحدية والتعيسة تبقى حية. رائعة هذه الصغيرة التي اكتشفها المخرج في قرية في مهاراشترا وجاء وجهها جديداً تماماً على الشاشة لتجسد شخصية مرسومة بعمق لفتاة جريئة لا تعبأ بالتقاليد، لقد أضافت إليها من ذاتها لدرجة أنه من الصعب تخيل أحد مكانها. بعد هرج ومرج بداية الفيلم هدأ الجمهور وهمد وهو يشهد النهايات الحزينة غير المتوقعة، لقد استطاع السيناريو مفاجأة الجمهور حتى اللحظة الأخيرة المفجعة بقسوتها. وخرج الجميع من القاعة مصدوماً بالطريقة الوحشية التي قتل فيها الشابان بعد سنوات من اختفائهما وتأسيسهما لحياة بدت مستقرة. الصحف الهندية أشادت بالفيلم الذي حطم الأرقام القياسية في نسبة التردد على فيلم ماراتي ليصبح ما حققه من إيرادات بعد أقل من شهر على عرضه الأعلى في تاريخ السينما الماراتية في كل الأزمان. وكتبت صحيفة «إنديان إكسبرس» أن على بوليوود السينما التجارية باللغة الهندية، أن تخشى السينما الماراتية بهذا الفيلم الذي يشكّل «ثورة على طغيان بوليوود ونظام النجوم المتآكل فيها». «سايرات» تحذير لهذه السينما الفائقة الشعبية المسماة بوليوود!
مشاركة :