سواء أكانت صينية الأصل، كما يقول الباحث في سيكولوجيا الأطفال برونو بتلهايم، أو فرعونية الأصل كما يقول آخرون، فإن حكاية «سندريلا» التي اشتهرت في الغرب حين تنافس على كتابتها شارل بيرو، في فرنسا، والأخوان غريم في ألمانيا، في نهاية القرن السابع عشر (بالنسبة الى الأول) وبداية القرن التاسع عشر (بالنسبة الى الآخرين)، يمكن اعتبارها قديمة قدم الحكايات الخرافية نفسها، وقدم ارتباط الأطفال بهذا النوع من الحكايات. وهي اليوم تعتبر الأكثر شهرة في الأرض قاطبة، تقرأ في مئات اللغات، وبالكاد تجد من لا يعرفها. ويقيناً أن قيمة هذه الحكاية البسيطة، في شكلها الخارجي على الأقل، لا تنبع مما ترويه - أي من «الحدث» نفسه - بل مما يكمن خلف ما ترويه، من الرسالة التي تحملها وتظل راسخة في ذهن الطفل. وهذه الرسالة عمد كثر من الكتاب، لا سيما بعد فرويد، في القرن العشرين، الى تحليلها والتعمّق فيها. وفي مقدم هؤلاء كان برونو بتلهايم الذي أفرد لـ «سندريلا» مكانة أساسية في كتابه «التحليل النفسي لحكايات الجن». > منذ القديم تعدّد الكتاب الذين عالجوا الحكاية ورووها، في صيغ مختلفة، وانما دائماً انطلاقاً من الحبكة نفسها، وضمن اطار المعاني ذاتها. لكن الحكاية كما كتبها الفرنسي شارل بيرو، تظلّ الأشهر والأكثر قدرة على مخاطبة العقل الطفل، وكذلك تظل الأكثر شفافية من ناحية قدرتها على ايصال المعنى، وبالتالي ايصال ذلك القسط من العزاء الموجه الى الطفل في مشكلة معقدة يعيشها، ويعيشها معه كما يبدو - خصوصاً من خلال تحليلات برونو بتلهايم وزملائه - معظم الأطفال الصغار، الذين مثلهم مثل سندريلا، في الحكاية، يعانون احساساً بالإضطهاد العائلي، ولا سيما اذ يمارَس عليهم من قبل أخوتهم الكبار. الحكاية تقول للطفل أنه، مهما كان حجم الاضطهاد والمعاناة، لا شك في أن الخلاص آتٍ، ليرفع الذليل المضطهد الى أعلى مصاف. ما عليه إلا ان يصبر ويهدأ ويقوم بما يُطلب منه - ظلماً، في رأيه -، ان يقوم به لأن مكافأته ستكون في حجم صبره. هل هي فكرة رجعية تدعو الى التواكل والخنوع في انتظار الفرج يأتي من الغيب والمجهول، كما يقترح بعض الباحثين؟ ربما، ولكن ليس هذا هو المهم هنا. المهم كما يقول برونو بتلهايم هو ان حكاية سندريلا، كما نعرفها «تبدو لنا مبنية من حول ضروب المعاناة والآمال التي تكوّن المحتوى الأساس لموضوعة المنافسة بين الأخوة ومن حول موضوعة البطلة وقد تمكنت من الانتصار على أخواتها اللواتي يظلمنها ويبتلعنها». > حكاية «سندريلا» التي نعرفها هي حكاية تلك الفتاة الصغيرة التي تعيش وسط أخواتها وزوجة أبيها، مظلومة تعاني، وتُكلّف بكل الأشغال المنزلية فيما اخواتها يتمتعن بكل ما يمكن للطفل ان يتمتع به. وهي تعاني وتتألم غير آملة بأي خلاص. ولكن ذات مساء، فيما كانت تقام في قصر الأمير حفلة تدعى اليها حسناوات المدينة، تأتي الساحرة الى سندريلا وهي منكبة على الأعمال المضنية، وتتيح لها ان ترتدي أحلى الثياب والمجوهرات، وحذاءً زجاجياً - كما تقول نسخة من الحكاية - أو من الفرو - كما تقول نسخة أخرى - أو من مواد نادرة على أية حال، وتؤمن لها، من طريق السحر، عربة ومرافقين وتبعث بها الى الحفلة. هناك يعجب بها الأمير الفاتن ويراقصها. ولكن، ما إن تدق الساعة الثانية عشرة حتى تتذكر سندريلا وعداً قطعته للساحرة، فتركض عائدة وقد سقطت منها فردة حذاء. يلتقطها الأمير، ويرسل في اليوم التالي من يبحث له عن الفتاة الحسناء التي تناسب فردة الحذاء قدمها. وهنا يبدأ القسم الثاني من الحكاية، حين يروح رسل الأمير يجربون الحذاء على أقدام كل فتيات المدينة، اللواتي يتزاحمن، لأن قياس الحذاء سيجعل من صاحبته زوجة للأمير. وتكون أخوات سندريلا من بين اللواتي يجرّبن الحذاء على أقدامهن... ولكن عبثاً، وعلى رغم كل المحاولات، في النهاية يعود الحذاء الى صاحبته، وتعود هي الى أميرها لكي تنسى الظلم الذي عاشته طوال سنوات حياتها الفتية. > بالنسبة الى الباحثين، وفي مقدمهم برونو بتلهايم، ترتدي رمزية الحذاء والقدم الصغيرة هنا، أهمية فائقة، وبتلهايم يذكر في هذا المجال، كيف ان التقاليد الصينية - التي تنتمي اليها الحكاية الأصلية، في رأيه - تربط الفتنة الجنسية للمرأة، بصغر حجم قدمها. إذ كلما كانت قدم الفتاة أصغر حجماً، كلما كان سحرها الجنسي أكبر، ومن هنا ما يؤثر عن التقاليد الصينية بأنها تجعل الفتاة منذ طفولتها تنتعل حذاء حديدياً لا تخلعه، حتى تحافظ على قدمها صغيرة. ومن الواضح ان هذا العنصر يلعب دوراً أساسياً ورمزياً في هذه الحكاية، ويقابله الدور الرمزي الذي يلعبه اسم سندريلا نفسه. فالاسم يعني، في عرف شارل بيرّو «فتاة الرماد»، وكذلك الأمر عند الأخوين غريم حيث تحمل الحكاية - والفتاة - عندهما اسم Aschen Puttel، وتعني أيضاً شيئاً أقرب الى «فتاة الرماد». وهذه العبارة تعني أصلاً، حتى من قبل بيرّو والأخوين غريم، فتاة المطبخ، الوضيعة والقذرة... الخادمة بكل اختصار. وهكذا، في الحكاية يقدّر للحذاء ان يرفع صاحبته من مكانة الخادمة، الى مكانة الملكة، مكافأة لها وتعويضاً عن الظلم الذي ألحقه بها أهلها المقربون. > إذاً، في هذا الإطار يحدد برونو بتلهايم ان ليس ثمة أية حكاية أخرى يمكنها ان تترجم، بأفضل مما تفعل «سندريلا»، التجارب المريرة التي يعيشها الطفل، إذ يشعر انه ضحية التنافس بين الإخوة، وإذ يشعر بأن إخوته لا يتركون له في الحياة اليومية سوى المكانة الأكثر وضاعة وإيلاماً. فسندريلا في الحكاية، صغيرة عاجزة، يضحي بها الأهل - زوجة أبيها هنا - من أجل رفاهية أخواتها. وهي مطالبة بأن تقوم بالأعمال الأكثر قذارة وانهاكاً، وعلى رغم انها تقوم بما يطلب منها في وجه أكمل، تاركة شكواها لنفسها، فإن أحداً لا يعترف لها بما تفعل، ولا يشكرها على جهودها، بل «على العكس» كما يقول بتلهايم «تطالب بالمزيد وبالمزيد». ويرى بتلهايم، في شكل عام انه «حين تتلاءم الحكاية - اية حكاية - مع ما يشعر به الطفل في أعماق ذاته، تصل الحكاية بالنسبة الى هذا الطفل الى درجة عليا ومؤثرة من الاتسام بالحقيقة». ومن الواضح، يقول بتلهايم ان «ما تعيشه سندريلا من ظلم ومعاناة، يوفر لها صوراً حية تجسد أمامها عواطفها، تلك العواطف القاسية والمقيدة، على رغم ما تتسم به أحياناً من التباس وعدم القدرة على أن تحدد بوضوح». > ويرى بتلهايم، وغيره، أن تطابق حال سندريلا في الحكاية، مع الحال التي يحس الطفل أنه يعيشها مظلوماً، والنهاية السعيدة التي تنتظر البسطاء الطيبين، حيث لا يمكن للأشرار أن ينافسوهم في مكسبهم هذا، هي ما يعطي هذه الحكاية سحرها وقوة تأثيرها. ويضيف ان المقابلة بين «الأم الشريرة» (خالة سندريلا) و «الأم الطيبة» (ممثلة هنا بالساحرة) لم تكن في أية حكاية أخرى في مثل الوضوح الذي تتسم به هنا. ويختم بتلهايم قائلاً إن الحكاية تقول لنا في وضوح ان سندريلا تعثر على أميرها «على رغم» المعاملة السيئة التي تمارسها عليها «الأم الشريرة»، غير ان لا وعي الأطفال ينحو دائماً الى أن يفسر الأمر في شكل مغاير: إنها تعثر عليه «بفضل» تلك المعاملة، والفارق الأساس يكمن ها هنا... > على رغم أصول سندريلا البعيدة، وعلى رغم انها كتبت بعد ذلك مرات ومرات، ثم اقتبست موسيقياً ومسرحياً وسينمائياً، وتبدلت صيغها، فإن الحكاية كما كتبها شارل بيرّو تظل الأشهر والأبسط. وبيرّو هو واحد من أهم مبتدعي حكايات الأطفال في الأدب الغربي، وهو فرنسي ولد العام 1628 ومات العام 1703، وعمل هو وأخوه كلود (1613 - 1688) وكان هذا الأخير كاتباً ومهندساً، على كتابة عدد كبير من حكايات الأطفال، وإن كان اسم شارل محا، على مرور الزمن، اسم اخيه. ومعظم حكايات الأطفال المعروفة اليوم، لها جذورها في أدب الأخوين بيرّو، وإن كان معظم ما كتباه، مجرد تجميع وإعادة صوغ لحكايات معروفة قبلهما.
مشاركة :