مهمة النقد الذاتي ليست محددة في اشتغال كل طرف بالخصومة مع الآخر، وذلك برمي التهم عليه من وراء الأسوار، بل باشتغال كل طرف بنفسه، بتراثه التعصبي، بتحيّزاته المذهبية ذات النفس الانغلاقي؛ لنصل جميعا إلى مرحلة تفكيك الأوهام التي تم بناؤها على أرضية الجهل، جهل كل طرف بالآخر، بل وجهله بذاته تجتاح العالم العربي اليوم موجة عاتية من الصراع الديني والمذهبي الطائفي بصورة لم تحدث على هذا النحو من العنف القولي والفعلي من قبل، لم تحدث على الأقل في حدود تاريخ العرب الحديث. وهو صراع متوحش تقوده التقليديات الأصوليات المنغلقة منذ زمن على مستوى القول، وتقوده اليوم هذه التقليديات على مستوى الفعل، وذلك بالتقاطع مع هموم الفاعل السياسي الذي يتلاعب بها من حيث تتصور أنها تتلاعب به؛ ليقف الجميع بعد كل هذا الحشد الإعلامي والتجييش الفكري والصراع المسلح على بوابة الجحيم. يحدث هذا الاحتراب الطائفي المتصاعد على مرأى ومسمع من الجميع، ولا أحد فيما يبدو يريد أن يسكّن متحرّكا (لا أن يحرّك ساكنا!) في هذا الصراع الذي يتَمَفْصل على حدود الهويات المذهبية/ الدينية في عالم عربي منكوب بكل عناصر التخلف، بالفقر والجهل والعنصرية والتعصب والاضطهاد والاستبداد والموت الرخيص. طبعا، لم يحدث هذا الاحتراب من دون أسباب أورثتنا ما نراه من دمار مادي، وانهيار إنساني، وبالتالي لم يكن مفاجأة من دون مُقدّمات كان تشي بأن هذا الجنون الطائفي سوف يفلت من عقاله ويفتك بالجميع. كانت كل المؤشرات تشير إلى أننا نسير بأنفسنا إلى هذه البؤر الساخنة، منساقين بوعي أو بلا وعي وراء غلاة العقائديين الذي استطاعوا أخذ الجميع بلا استثناء إلى ميادينهم التمايزية المُتعنصرة مذهبيا، فلم يفلت من متتاليات الفعل التعصبي (من متتاليات الفعل، وليس من التعصب ذاته الذي لا يُوافق المتنورون على الانخراط فيه) أحدٌ من المنتمين إلى عوالمها ولو بالوراثة، فمن لم تدركه لوثة التعصب المذهبي في خاصة نفسه، أدركته آثارها الواقعية/ العملية المدمرة، والتي بات من الواضح أنها تكتب بدمائنا تاريخا جديدا سنعيش فيه لعقود، وربما لقرون. من الطبيعي أن ما يحدث لا يصنعه، ولا يشجّع عليه، ولا يتوافق معه المُتديّنون المعتدلون، فضلا عن أصحاب الرؤية المدنية الانفتاحية (= الليبرالية) أولئك الذين حاربوا هذه التوجهات التعصّبيّة العنصرية من زمن طويل. ما يحدث صنعته التقليديات الاتباعية من حيث هي منظمات متعصبة، وكيانات انغلاقية/ منغلقة على مقولاتها الاصطفائية التي تتوهم فيها أنها: التجسيد الكامل والأوحد للحق المطلق/ النهائي في التاريخ وفي الواقع. الصراع من حيث المنشأ، ومن حيث التحكّم النسبي في مصائره هو من عمل سدنة هياكل الوهم (على حد تعبير عبد الرزاق عيد) الذين يؤمنون بوهم التطابق مع الحقائق المطلقة/ الأزلية. هؤلاء هم مُشْعِلو نيرانه التي أصبحت حرائق تأتي على ما تبقّى من رُفات الروح التي أنهكها الصراع باسم (الأوهام اليقينية!)، ولكنهم لن يكونوا وحدهم ضحايا غبائهم الاستثنائي، ولاتعصبهم المرضي، بل سنعيش معهم في واقع جهنمي، هم للأسف مُهَندسِوه، وصانعو معالمه، ونحن شركاؤهم فيه بلا ذنب؛ إلا ذنب السكوت على كل هذا العبث الافتراسي بالعقول وبالضمائر والمصائر. من الطبيعي أن يحدث كل هذا وأكثر، من الطبيعي أن تسحقنا الفتن الطائفية على هذا النحو الذي يثير سخرية العالم منا؛ قبل أن يثير رثاءه لنا؛ ما دمنا نُشحن طائفيا بكل صور العداء، وعلى امتداد عقود. عندما تعاملنا بتجاهل ولا أقول بتسامح ! مع التكفيريات المذهبية التي كانت تجتاح عوالمنا الفكرية في ميادينها العقدية، لم نكن نستشعر حجم الخطر الذي يكمن في استشرائها، معتقدين وهما أنها ستبقى في حدود دوائر الفكر، ولن تتعدّى بحال مسارب التوجسات العاطفية التي نريدها أن تبقى ملتهبة لهذا السبب أو ذاك. لم نكن نعي تمام الوعي أثر هذا الفلتان التكفيري على مستوى الطرح العقائدي. كانت الأقوال في هذا المجال تأخذ مداها الأبعد دون حسيب أو رقيب، بل وربما استثمر فيها كثيرون بحسنة نية أو بسوء نية؛ لا فرق. كنا نؤسس لتصوراتنا بأقوال لا تعكس إلا عبثيتنا. كانت ألسنتنا أطول من عقولنا بمراحل! وكما يقول خليل أحمد خليل في كتابه (التراث العربي) ص 195: "إن العقلية العربية، الشاعرية بامتياز، مازالت محاصرة بلسان ابن الرومي الذي قيل فيه كان "أطول من عقله".". وليت ألسنتنا كانت أطول من عقولنا في عبثيات الهوامش اليومية فحسب، إذا لهان الأمر رغم فداحته، ولكنها كانت أطول في خطاب المعتقد الإيماني، أي في صناعة تُهم البتديع والتضليل والتكفير. نحن الآن نصطدم عمليا بواقع نحن صنعناه على مستوى الفكر، إما بإنتاج ونشر خطاب الكراهية والتكفير المذهبي، وإما بالسكوت عن هذا الخطاب الوبائي وتركه يستشري في جسدنا الثقافي. نحن هنا بين جانٍ بالأصالة، أو جانٍ بالتواطؤ سكوتا أو تأييدا. هذه نقطة اعتراف مفصلية يجب أن نكون على مستوى المسؤولية فيها؛ لأن منها ومنها بالذات سيكون الانطلاق نحو إصلاح ما أفسدناه بألسنتنا الحمقى وبأقلامنا العابثة. وبدون التوقّف أولا عند هذا المُنحنى الاعترافي لن نستطيع أن نخطو خطوة واحدة في مسيرتنا لكف غلواء هذا العبث الجنوني بالإنسان وبالأوطان. من هنا تأتي أهمية النقد الذاتي الذي لا تطيقه التقليديات الأصولية المنغلقة على أوهامها؛ لأنه (= النقد الذاتي) يهدم عروش الوهم الزائف الذي تأسست كراهياتها عليه. كل شيء يمكن أن تتحمله هذه التقليديات التعصّبية إلا أن يخرج عليها من أبنائها المنتمين إلى تُراثها بحكم الوراثة مَن يُحاكمها في تديّنها إنسانيا/ أخلاقيا ومعرفيا. أولى خطوات النقدي الذاتي تكمن في تجسير الهوة النفسية والمعرفية بين أبناء الطوائف المتصارعة، سواء كان صراعها على مستوى التَّشاتم الفكري (ولا أقول: الجدل الفكري)، أو كان على مستوى المواجهة المسلحة التي تقف على خلفية اصطفاف فكري سابق. فهناك بلا شك صور نمطية مغلوطة يمتلكها كل طرف عن الطرف الآخر، صور مزيفة ليس فيها من الحق إلا أقل القليل، بينما فيها الكثير من المبالغة والتهويل والكذب المفضوح. مهمة النقد الذاتي ليست محددة في اشتغال كل طرف بالخصومة مع الآخر، وذلك برمي التهم عليه من وراء الأسوار، بل باشتغال كل طرف بنفسه، بتراثه التعصبي، بتحيّزاته المذهبية ذات النفس الانغلاقي؛ لنصل جميعا إلى مرحلة تفكيك الأوهام التي تم بناؤها على أرضية الجهل، جهل كل طرف بالآخر، بل وجهله بذاته: بتاريخه، وبتراثه، وبخلفياته التي هو نتاجها على كل حال. إن الجماهير المتديّنة هي وقود الصراع، إن العوام (ويدخل فيهم حتى أولئك الذين يظنون أنفسهم نشطاء فاعلين لا منفعلين! في سلك الكهنوت الوعظي الطائفي) هم ضحايا الجهل الذي لا يعرفون مسارات تفاعله التاريخي، أقصد: الجهل المُعَقلن!، الجهل المُديّن ! ذلك الجهل الذي يمتلكه كل طرف عن الطرف الآخر، والذي يؤدي بدوره إلى شيطنة كل طرف للطرف الآخر المقابل طائفيا؛ ليصبح إفناء كل طرف بعد هذه الشيطنة المتبادلة، المتمظهرة بالعلم! بالنسبة للطرف المقابل شرط وجود/ حياة في الدينا، وشرط نجاة في الآخرة! إن كل فرد جماهيري عاميّ، كل فرد ينتمي إلى أحد طرفي النزاع/ الصراع، يختزن في ذاكرته صُورا مغلوطة تجعل من الآخر(= المقابل طائفيا) بالضروة خصما لدودا، خصما لا يهدد الوجود الذاتي/ الفردي، ولا الوجودي الجماعي/ الهويّاتي فحسب، وإنما يهدد أيضا الحقيقة الأزلية ذاتها في مستوى تموضعها في الواقع/ واقع حياة الناس. إن هؤلاء الجماهيريين من عوامّ هذه الطائفة أوتلك، هم ضحايا جهل متبادل تتنوع أسبابه وتجلياته ومصائره. ويمكن اختصار صور ونماذج هذا الجهل الجماهيري الذي يزيد من درجة الاحتقان التعصبي، والذي يقف عائقا دون نجاح مشاريع التعايش فيما يلي: 1 عدم القراءة المتعمّقة في علم الأديان المقارن، وهو العلم الضروري لمعرفة طبائع الأديان والمذاهب، من حيث وجودها المجرد من مضامينها، أي من حيث طبيعة النشوء، ومن حيث آليات الفعل والتفاعل، ومن حيث قوانين الافتراق والتشظي... إلخ. فجماهيرنا لا تعرف شيئا عن القوانين العامة التي تحكم رحلة بناء النظريات الدينية والمذهبية، ولا تعرف الملابسات الحتمية التي ترافق هذه الرحلة، ولا تعي طبيعة الفعل الديني/ المذهبي من حيث هو كذلك، ولا شروط تموضعه في الواقع، ولا ما يترتب على ذلك من نتائج تتلبس ظاهرة الدينية ذاتها، بصرف النظر عن مضامينها. نتيجة لذلك تتصور هذه الجماهير أن ما يحدث لها هو حدث فريد من نوعه، وأنها ذات وضع استثنائي على مستوى التصور وعلى مستوى الفعل، وأن الطرف الآخر المقابل ذو طبيعة استثنائية في مُجمل تصوراته وفي أفعاله، وفي ردود أفعاله أيضا. ومن ثم لا يمكن التعامل معه طبيعيا/ إنسانيا؛ لأن لم يعد وجودا طبيعيا يمكن احتماله كشريك في نظام الحقيقية وفي نظام الواقع. لا شك أن مثل هذا الجهل المتساوق مع وهم الاستثنائية يمنع الذات من أن ترى نفسها والآخر المختلف معها في سياق الوجود الطبيعي إنسانيا، فلا تضع نفسها ولا تضع مخالفيها في مسار التاريخ. وعندما تتصور نفسها أو تتصور مخالفيها خارج التاريخ، فإنها تتصورهم خارج حدود المفهوم، وخارج حدود المعقول: المعقولية التاريخية، أي تتصور نفسها استثناء في الحق وفي الحقيقة؛ استثناء تستحق بموجبه التميز/ التفوق/ الاستعلاء الاستثنائي، وترى الآخر استثناء في الباطل، لا يستحق الإبقاء عليه؛ لأنه كما تتصوره بات نشازا في سياق المسار الطبيعي. 2 الجهل التام بمضامين المذهب الآخر، وبالطبيعة الاجتماعية لأتباع هذا المذهب. فمن كلا طرفي الصراع، هناك قطاع جماهيري عريض لا يعرف شيئا ذا بال عن الطائفة الأخرى المقابلة له. إنه يجهل جهلا تاما من يفترضهم خصومه الأزليين. وهذا الجهل يصبح أرضية خصبة يشتغل عليها تُجار السياسة وسدنة الصراع المذهبي، إذ يستطيعون أن يشتغلوا في فضائه بممارسة التزييف والتدليس، وخلق الصور النمطية المشوهة كما يشتهون، ولا يستطيع أحد من المنتمين إلى أرضية هذا الجهل التام أن يتساءل أو يناقش، فضلا عن أن يرد ويحاور ويمتحن هؤلاء الزاعقين بالعداوات العمياء. هذا الجهل خطير جدا؛ لأن المتنفعين من تأجيج العداوات يستطيعون التدليس على جماهيرهم الجاهلة بسهولة، متمظهرين بالعلمية؛ وذلك عندما يُحيلون التُّهم الكبير المُسْتفِزّة إلى مصادرها الموثّقة في تراث الآخر، دون أن يكون المتلقي (الذي يتلقى هذا التوثيق السطحي بانبهار) قادرا على فرزها والتأكد منها: أهي أصول تحظى بالإجماع عند الأغلبية الساحقة من العلماء المعتبرين داخل المنظومة العقائدية، أم هي مجرد شذوذات أو شطحات أو نتوءات على هوامش البناء العقدي العام. 3 هناك جهل مُتعالِم، ذو علاقة وطيدة بالجهل السابق. وهذا الجهل يظهر عند أولئك المُطلعين نسبيا على تراث الآخر، ولكنه اطلاع عن طريق متعصبين، يختصرون (في غرض بحثي مُوجّه لإخراج الآخر من مسار تمثل الحقيقة) كل هل هذا التراث في تهم جاهزة، بحيث يكون الوعي بالآخر وعيا بهذه التهم، دون معرفة حقيقية بمجمل التراث الذي يكتنف هذه التهم، والذي لو فُهمت (= التهم) من خلاله؛ لم تجد لها من رواج في عالم المتعصبين المتطرفين. يظهر هذا الجهل المتعالم أشد ما يظهر في (الرسائل العلمية!) التي تمتاح من رموز تاريخية متعصبة في مناقشتها للآخر المذهبي. إنه جهل وتعصب يُبنَى على أساسٍ وطيدٍ من جهل وتعصب. والمشكلة هنا تتجاوز حدود الجهل الأولي (المذكور في الفقرة 2) حيث إن ممارسي هذا الدور التجهيلي يعتقدون أنفسهم خبراء في المذهب الآخر، بينما هم في أحسن أحوالهم لم يطلعوا إلا على التهم المعلبة التي تُكوّن عصب الأطروحات التعصبيّة عند المتشنجين مذهبيا من هؤلاء وهؤلاء على حد سواء. 4 هناك جهل ناتج عن عدم فهم النزاعات المعرفية داخل تراث الآخر، وعدم فهم طبيعة الاختلاف في التلقي للمنتج التراثي. فمثلا، بعض الكتب التراثية التي تجمع الآثار والأقوال والمرويات دون تمحيص، إنما جُمعت في الأزمنة الغابرة لمجرد الحشد التجميعي، ولم يعتقد جامعها فيها الصحة إجمالا. بل حتى ما اعتقد فريق صحته وتمثله في كتبه، قد لا يوافقه فريق آخر من داخل المذهب ذاته. لهذا، عندما يأتي المتعصب من المذهب المخالف فيقتطع هذه الرواية/ القول/ الأثر من الكتاب التراثي، ثم يزج بها في أتون خطابه الاستدعائي فإنه يجهل أو يتجاهل أنها ربما تكون رواية ساقطة عند محققي المذهب، أو أنها رواية غير معتبرة عند كثيرين؛ بناء على معارضتها لقواعد عامة في المذهب، أو أنها رواية تعارضها رويات أخرى تنقضها من أساسها، وقد وردت في الكتاب ذاته، وهي الروايات التي يتجاهلها الباحث الصّراعي عمدا؛ لأنها ستفسد عليه نقاء التهمة التي يريد إلصاقها بالخصوم! 5 ومن الجهل ما ينتج عن عدم استيعاب للمسيرة العقلية والاجتماعية للمذهب المقابل. فقد يقول مذهب ما بجواز شيء أو بوجوبه أو بتحريمه؛ مما يتخذه المذهب المخالف مناسبة للتبخيس والتشنيع عليه. وهنا لا يمكن الرد بالإحالة إلى المنطق الصريح للفتوى فقط، بل لا بد من استيعاب النظام المعرفي العام للمذهب من جهة، وقراءته في مسيرة جدلياته التاريخية من جهة أخرى. وهنا سيكتشف الإنسان أن ما رآه شنيعا وغير معقول لم يصبح كذلك، بل أصبح مجرد (وجهة نظر) للطرف الآخر الذي من الطبيعي أن تختلف معه وجهة نظر الأنا، وجهة نظر قد تكون خاطئة في نظرنا، وقد تستوجب مناقشتها بحماس بالغ، لكنها لا تستحق كل هذا التشنيع الذي قد يصل حد التكفير. 6 أخيرا، هناك الجهل الناتج عن عدم الوعي بأن للمسألة الطائفية أسبابها الاجتماعية والسياسية، وربما الاقتصادية، فضلا عن المعرفية. ولا شك أن الطوائف داخل الدين الواحد لا بد أن تختصم؛ لأنها تتنازع على رأس مال رمزي/ معنوي مشترك، كل منها تريد احتيازه بالكامل. ويزيد الأمر تعقيدا أنها في الغالب الأعم تتنازع على أرضية جغرافية واجتماعية وسياسية واقتصادية مشتركة، مما يعزز حتمية ظهور التوجّه التنافسي الذي قد يتحول إذا ما لم يُلجم بالقوانين الرادعة، وبالثقافة التنويرية الانفتاحية إلى صراع متوحش يلبس أقنعة الحماس الديني المتقاطع مع المقدس، بينما هو في الحقيقية ليس أكثر من صراع دنيوي مدنس على موارد الحياة الطبيعية في هذه الدينا، حتى وإن زعم أن الصراع على الحقيقة وعلى الآخرة هو غاية هذا الصراع. إذن، نحن أمام جهالات تتلبسنا بوعي أو بلا وعي، كما أننا أمام خطابات تجهيلية تستنفع من هذا الجهل. وهذا يؤكد أن الجهل هو أصل المشكلة، وأن الخطوة الأولى لدرء تنامي هذا الصراع الطائفي هو نشر المعرفة النقد ذاتية، التي من الضروري أن تمارسها كل طائفة على تراثها، إضافة إلى نشر ثقافة الحوار السلمي الذي يكفل انفتاح كل طرف على تراث الطرف المقابل، حتى يتفهّم (والتفهم ليس حالة معرفية فحسب، وإنما هو حالة نفسية، تستلزم التقارب و... إلخ) كل منا الآخر. إننا جميعا نواجه خطرا لن يستثني أحدا. هناك كارثة على الأبواب يجب التصدي لها على كل الجبهات المعرفية والقانونية والسياسية بكل شجاعة وحزم. ونحن إن لم نفعل ذلك، واكتفينا بالفرجة السلبية على هذا الصراع المتنامي؛ ستلعننا أجيالنا عما قريب؛ لأنها ستجد نفسها بعد أربعين أو خمسين سنة (وهو زمن قصير نسبيا) وليس في يدها مما أورثناه لها إلا ركام عداوات بائسة وحطام دنيا محترقة. ففي هذا الزمن القريب نسبيا، ستكون كثير من أمم الأرض التي أشرعت مراكبها اليوم قد حققت طفرات تنموية وتعايشية هائلة، وسيجد أبناؤنا وأحفادنا أنفسهم في القاع مقارنة بهذا العالم الصاعد، وسيعرفون أننا كُنا سبب واقعهم المُجلّل بعار التخلف والفقر والتناحر والاستبداد والطغيان والصراع المتوحش... إلخ ملامح هذا الواقع الذي بات اليوم يتراءى لنا وللعالم أجمع، بوصفه المشهد الحي المأخوذ من واقع خير أمة أخرجت للناس!
مشاركة :