للشعر شفافية خاصة؛ لا يدركها إلا أولئك الذين يملكون مغناطيسية التلقي بصورة فعالة، وعندنا نستقطب معا- كمتلقين - أحد تلك المصادر الشفافة، فإننا لا نملك أمامها إلا التصفيق؛ لأنها كانت جديرة بجذب انتباهنا، حتما إذا ما كان استقطابنا لها خاليًا من كل محاباة لا تمنح الشعر أي تقدمية . إذًا يجب أن تكون هذه المصادر- كما يحلو لي أن أسميها- (فاعلا) في الجملة الشعرية، وعند ذلك يقف السؤال موقف المتحرك في عالم السكون: من من الشعراء يستحق أن يكون فاعلًا في الجملة الشعرية؟ ومن منهم يتخلى عنه هذا الدور الفعال؟ - مدخل.. كلنا نتفق على أن الفعل الشعري/ النصر من خواص وسمات فارس الكلمة «الفاعل»/ الشاعر، إلا أننا لا نجهض بأي حال حق المتلقي في عملية التفاعل مع الفعل الشعري؛ لكونه أحد القطبين؛ إيمانًا منا بجزئية التقسيمة الشعرية بين قطبيها (الشاعر والمتلقي)، ولكننا قد نسقط كشعراء في مزالق الرجعية إذا لم نمكن ذلك المتلقي من مفاتح أبواب النص؛ حتى يتمكن بدوره من القيام بعملية التفاعل؛ ولنضرب على ذلك مثالين: - الأول: النص/ المفتاح.. للشاعر فهد دوحان نبت عشب العتاب.. ولي سنين»ن» والضلوع رمال ضواني بارقة.. قلت: أبشري بي يا هماليله سلام.. ولا لبست من القلوب اللي عرفت سمال عدا قلب»ن» وعدت أصدف طريقه مثل هالليلة أخاف من الكلام اللي بغيت أقصاه ما ينقال وأبقصر فزعة «ن» قامت تطارد بالحشا خيله عتاب»ن» يابس»ن» في وسط صدري ما قواه الحال سقيته مزنة الصبر الطويل وعود بسيله -الثاني: «النص فقط».. للشاعر/ نايف الجهني ويتداعى موقدك للريح: باب لا تجاوزك المدى من دون ثوب للعرا بك حلم.. للغيمة خباب للمطر في دفتر أحلامك هبوب البكاء في مدمعك هو السراب لا تقاتلنا يصير ألفي كوب حلمنا وجه «ن» تحيله من يباب والصحاري تندخل من كل صوب -الثالث النص للشاعر/ نايف صقر (يانحل خصورهن.. والخيل سباقة) النظرة العامة للنص.. استطاع الشاعر بأدواته القادرة على سكب المعنى الجميل في قالب المفردة المغرقة في المحلية، أن يضيء لنا جانبًا من جوانب تحديث القصيدة العامية بطريقة ترفض التقليدية المفرطة، وتتحاشى أن تقع في بوتقة الغموض. وعندما نسلط الأضواء عليها ندرك مدى عمر التجربة الزمنية/ الشعرية التي مر بها الشاعر، والتي لم تكن قصيرة بقدر ماكان الشاعر نفسه جديرًا بالبروز من خلالها عصاميًا حد الانتصار على الأشياء؛ هذا إذا نحن سلمنا سلفًا بأن الشاعر ولد في بيئة شعرية، فكانت كل هذه الأسباب والدوافع رياحًا تهب باتجاه الأجمل في حياة «نايف صقر» الشعرية. النص .. عسى ديرة ولد حازم يباشرها بكور السيل شهر .. لين الشعيب اللي وراها تزهر أشناقه سحاب»ن» .. صوت وبله كنه التسبيح والتهليل تخيله كل عين.. ويشرب الظميان براقه استهلال رائع، ينبني على جديد في القصيدة الشعبية، يتباين وكل البدايات لمعظم القصائد، والأروع بعد نظر الشاعر في عملية إثراء الدعوة المستهلة بقوله: لين الشعيب اللي وراها تزهر أشناقه وفي قوله: ويشرب الظميان براقه أيضًا هناك تداع جميل في المفردة والمعنى؛ يوحي إلى قوة وإثراء في الدعاء الذي كان يريده الشاعر أن يكون لتلك الديار؛ غير أني كنت أتمنى أن يكون لدى الشاعر ترتيب في تجسيده لعملية سقوط المطر- رغم أنه عاش في بيئة بدوية، ويدرك تمامًا ماهية هذه الأشياء ؛ إذ المفترض أن يكون السحاب متقدمًا في هذه الصورة. لعل مدلل يستاهل التقدير والتدليل يطاولنا الرضا لو ضاق راعي الشاه والناقة لعل الجوهرة بنت المكارم والسخاء والهيل يفل حجاجها عذر القصيد وشرهة أوراقه توسل جميل لم يتخط عبارات السمو بالنفس، والأجمل توضيح الهدف المرجو من وراء « التقدير و التدليل « حتى وإن كان ذلك على حساب عدم رضاء « راعي الشاه والناقة « وفي تصوير جيد لعادة مقدسة عند العرب جمع الشاعر أدواتها في الشطر الأول من البيت الثاني، فكان ذلك تجسيدًا لما يتمتع به أهل تلك المعشوقة من « كرم « . أما العبارتان « عذر القصيد « و « شرهة أوراقه « فلعلها أجمل ماذكر في البيتين السابقين، حيث استطاع الشاعر أن يجمع فيها بين المحسوسات والمعنويات ؛ بطريقة تبدو وكأن للقصيدة لسانًا و للأوراق وجهًا من خجل ... وفي قوله : قصيد»ن « ماتجمل في هدبها والعيون بخيل وبيت»ن» ماوصفها لو بنيته باهدم أوراقه عزف بالكلمات يستحق الإصغاء فعلًا ؛ فقد استقطب الشاعر هنا أدوات الأشياء المحسوسة إلى تلك التي لاتملك من الذوات إلا الأسماء .. قصيد»ن» ماتجمل .. بخيل وبيت»ن» ماوصفها .. باهدم أوراقه كل هذا ينبئ عن قدرة الشاعر على استنطاق الموجودات بطريقة ممتعة لايعجز عن إدراك كنهها أحد، وهي وإن كانت سطحية، إلا أنها تجسد - كما قلت - القدرة الفذة التي يتمتع بها الشاعر في توظيف المفردة المحلية بشكل مميز، أما حينما يصف معشوقته في الأبيات : السادس - السابع - الثامن، فإن ذلك الوصف لايخلو من النقائص التي كان لابد وأن يستجدي الشاعر فيها - على الأقل - مافاته من أشياء، فهو قد حصر الوصف في : الجبين - الجديل - الرمش - العيون ولم يتعد ذلك إلا في قوله: سرجوفها الضامر وبصماته رائعة في قوله: يحسد الجوهرة سرجوفها الضامر بنات وخيل وقوله: ورمش»ن « فاتر»ن» لاسلهمت به كن ماله حيل أما في توظيفه للمفردات : الجبين- الجديل - العين فلا أرى أنه قد أجاد . الأبيات: يحسد الجوهرة سرجوفها الضامر بنات وخيل ولو قالوا: يانحل خصورهن والخيل سباقة هذا غير الجبين اللي ؤقت شمسه سواد الليل جديل»ن» تكرمه نور البنات لحزة اطلاقه ورمش»ن» فاتر»ن» لاسلهمت به كن ماله حيل كسى عين»ن» تشادي عين حر»ن» تل مسباقه سبق التنويه إلى ماتحمله هذه الأبيات من جماليات، غير أن قول الشاعر هنا : يانحل خصورهن والخيل سباقه تكرار لم يضف إلى النص شيئًا يذكر، غير أن استدراك الشاعر في قوله : ولو قالوا . أعاد للبيت ألقه . سماها طيب أهلها، نجمة»ن « بين الجدي وسهيل يلوق الها الفخر، وجدودها حماية الساقة جدود»ن « يتبعون ويفزعون ويذبحون الحيل قبل وقت الرخا، يوم الفقر والجوع والفاقة جدود «ن» من قربهم مايجي ذخره ردى وحليل مادام الحر يشهر، دايم الغربان نعاقة يمتطي الشاعر هنا جاهلية القرن العشرين بطريقة جميلة، صاغها في سياق لم يخل كذلك من السلبيات التي أضفت على النص شيئًا من التداعي في الألفاظ التي تحيل إلى ذات المعنى، أما الأدوات التي استخدمها في الأبيات السابقة فهي: نجمة بين الجدي وسهيل / دلالة على: العلو. الحر/ دلالة على: الشجاعة. الغربان/ دلالة على: الجبن. وما يمكن أن يكون مأخذًا على الشاعر هنا، ذلك الترادف الذي لم يضف إلى سياق البيت أي معنى جديد، فقوله: يوم الفقر والجوع والفاقة. مجموعة مترادفات، إن لم تحمل ذات المعنى التي تحمله إحداها فليست بمنأى عن التقارب الذي يكاد يصور كل هذه المعاني في أحدها. وقد ختم الشاعر نصه هذا بربط أعتقد أنه ذا مغزى مقصود، فقوله: ترف الورق والمترفة ربط جميل يوحي بشيء من الشفافية بين النص والمقصود من النص، ولذلك يؤكد هذا المعنى بقوله : ذوقي لذيذ القيل ولما كانت النهايات عادة تحمل بعض ملامح البدايات، فقد راهن الشاعر على استسلامه الذي يصوره في ذلك الجهد المبذول لإرضاء معشوقته ؛ إذ يقول: على ترف الورق يالمترفة ذوقي لذيذ القيل وأنا اللي لاضميتي تبشرين بزمزم أعماقه حرثت القاع وأسقيت النوى والحب عذب السيل هذا اللي في يديني .. والرجاء في جود فلاقه. المزيد من الصور :
مشاركة :