لو شئنا أن نمنح العصر الذي نعيشه اسماً وشهادة تقدير لأكثر ملمح يطغى عليه ويميزه، فأي مسمى نطلق عليه وأية شهادة يستحق؟ ربما نكون منصفين إن نظرنا بتجرّد إلى أحوالنا، ورأينا الاتجاهات التي تتجاذب العالم، لنقر ونعترف بأننا نعيش عصر التناقضات والإفراط في كل شيء دون استثناء أية تفصيلة صغيرة من حياتنا. مفرطون نحن في اتباع الأنظمة الغذائية الريجيم أو الدايت سمها كما تشاء، والسعي خلف المكملات أي الفيتامينات. جرعة حبوب للتنحيف، وجرعة حبوب للتقوية. وإذا شئت أن تلتقي بالأصدقاء فأين يكون اللقاء سوى في المطاعم التي أصبحت أكثر ازدحاماً من الشوارع، وتقف في طوابيرها بانتظار أن يأتي دورك لتجلس إلى أية مائدة خالية والعيون تراقب اللقمة وهي تنزل في فمك علك تشعر بالحرج فتسرع ليجلس مكانك ذاك المنتظر في الطابور.. وفي المطاعم تأكل كل ما هو فات Fat أي دهون ودسم، والحلويات اللذيذة، ثم تسرع إلى الميزان وتبحث عن ورقة نظام التنحيف من جديد. حتى المشروبات الغازية أدخلها الإنسان في نظام ال دايت وكأنها مشروب ساحر سيشفط الدهون وهو يسري في البدن. وبعد كل التخمة التي تشعر بها، يقول لك الطبيب إنك تعاني نقصاً في الفيتامينات، ويأتيك تقرير دولي جديد عن التغذية في العالم يخبرك بأن ثلث سكان العالم يعانون البدانة، والثلث الآخر يعاني نقص التغذية، وأن العالم لا ينفق ما يكفي من أموال من أجل الوقاية من البدانة وسوء التغذية. وصل الإنسان بالإفراط إلى مرحلة معاناة البدانة تماماً كما المعاناة من الجوع. كلاهما سوء تغذية وسوء استخدام للمال وللمأكولات، وكلاهما خير دليل على تطرّف الإنسان في أهوائه، وجنوحه نحو سوء استخدامه لمستلزمات عصره أكثر مما يذهب نحو التوازن والعدل بين الأشياء. إفراط في استخدام المال، وإفراط في إهدار الدخل، والمصيبتان بمثابة الوجهين لعملة واحدة. مسألة البدانة لم تعد مجرد ظاهرة عابرة، ولا هي دليل صحة وعافية. البدانة صارت مرض العصر، والأخطر أنها المسبب الأول لنصف حالات الوفاة لدى الأطفال دون سن الخامسة! إنها قمة عدم التوازن حيث يبلغ بالبشرية التناقض حد معاناة سوء التغذية، ولسوء التغذية وجهان هما التخمة والجوع. أطفال يموتون من البدانة، وأطفال يموتون من شدة افتقارهم لأية لقمة يقتاتون بها. نعيش في عالم مجنون فعلاً، نموت تخمةً وجوعاً. نور المحمود noorlmahmoud17@gmail.com
مشاركة :