لماذا تهرع وجداناتنا للشعبيات وتنجذب عقولنا إلى كل ما هو شعبي وموروث؟ وها نحن نتسابق بكل إبداعاتنا ومعطياتنا الثقافية إلى كل ما هو جديد ومستحدث؛ إلا أننا نظل مشدوهين ومشدودين بحبل وثيق يجرنا نحو تلك الشعبيات، فنجد فيها المتعة والحس الدافق؛ وإن تظاهرنا بالتمسك بما هو جديد في مسلك من التعالي على كل ما هو شعبي. أسئلة ملحة تجعلنا نبحث في دواخل النفس وهي تبحر نحو هذا وذاك، فنجد المركب تجدف بمجدافين مكسورين نحو ما هو تمظهر بالمستحدث. أعني بذلك ذائقة جمهور العامة وليس غيرهم. فالعامة هم مرآة ما يطرح على الساحة حتى يكوِّنوا ظاهرة، وحين تحدث الظاهرة يجب علينا دراستها وتتبع مسالكها. لقد بقي الأدب الشعبي، مثل غيره من الموروثات الشعبية، يُتناقل شفاهة وعبر قنوات متعددة وغير مرصودة في المراحل الأولى للثقافة الشعبية المتوارثة؛ إذن هذا اللون من العطاء الإنساني هو جزء من التكون الأول للعقل الإنساني في كل بيئة، يرسم ردود الأفعال العقلية والوجدانية. وإذا تتبعنا الفن الشعبي بكل تعدداته وكل صوره منذ العصور البدائية وحتى يومنا هذا وجدنا خاصية مهمة تتلاقى مع رسوم الأطفال، وقد جمعت بينهم سمة الشكل المسطح غير ذي بعد في العمق يعمل على نحت الصورة في المخيلة. وللفنون المسطحة مجالات في صور الإبداع الشعبي. ولقد ارتبطت هذه السمة بالعقيدة والوجدانيات. وإذا تتبعنا الفنون والصور البدائية وجدنا هذا الشكل المسطح يغلب على النقش على الكهوف، وفي تلك النقوش تتلاقى العقيدة مع الوجدانيات في معين واحد، فلعل هذا التلاقي هو أولى درجات تبين الرؤية إن جاز التعبير. فقبل أن يذهب الرجل إلى الصيد، كان يرسم صورة للثور على جدار كهفه ثم يرسم رمحا في صدره، ثم يذهب. هذه الصورة تجعله أقوى وأجرأ من ذي قبل، فيصطاد صيده ويعود محملا بالفرحة والنشوة. لم تكن تلك الصورة إلا نحتا وتجسيدا في مخيلته وهي مسطحة على جدار كهفه، محملة بالعقيدة الراسخة أن سيتأتي له ذلك إيمانا منه بتلك التميمة والتي تجذرت في داخله. وهذا ما يمنحه الطاقة الهائلة على التغلب على كل شيء. هذا من ناحية الاعتقاد، التي تتجلى لنا في وقتنا الحاضر في اليقين، أما في الفنون فتتجسد في الخط العربي وفي الفن الإسلامي غير ذي أبعاد. أما في الفنون الأدائية فتتجسد في الفنون الشعبية مما يحدث نوعا من التفاعل، هذا التفاعل يأتي من داخل الفرد نفسه وبفطرية وتلقائية ناتج عن إحساسه الدائم بالاعتقاد أو العقيدة. مجتمعة في (الوجدانيات) وهو ما أطلقنا عليه (البعد الخامس في التلقي). إن الفنون الشعبية والموروثات تعتمد اعمادا كليا على ذلك، كما تتخذ من السرد والخيال سبيلا للوصول إلى عمق الوجدان. وهو منبع تساؤلنا: كيف تصل هذه الموروثات إلى عمق الوجدان قبل غيرها؟ الخيال هو ما يميز جل الفنون الشعبية وللخيال أبعاد ودرجات: 1- التخيل ذو البعد الواحد وهو ذلك النوع من التخيل الذي يمكن للشخص من خلاله تخيل منزل أو شجرة أو كتاب دون إضافة ما يمكن أن تحسه بالحواس الإنسانية المعروفة. 2- - التخيل ذو البعدين وهو تخيل يعتمد على الجمع بين العناصر المتباعدة، لكنه مازال يعتمد على ما يمكن أن تدركة أيضاً بالحواس. 3- التخيل ذو الأبعاد الثلاثة وهو ذلك النوع من التخيل الذي يعتمد على الرمز، كما يحدث حين تبصر فى السحب أشكالاً فنية أو حين يرى الشاعر إيليا أبو ماضي الشمس عاصبة الجبين. 4- التخيل ذو الأبعاد الأربعة وهو ذلك النوع من التخيل الذي يعيد بناء الواقع بناء جديداً معتمداً على عناصره القديمة مضافاً إليها الرمز ثم يأتي بعد ذلك دور السمو فوق الواقع ليشهد المبدع بما يشهد وهو يصبح عالماً ليس له علاقة بعالم الواقع؛ فالتخيل هنا هو ما يسوق للمعرفة عن طريق البداهة. ولا يتأتى ذلك إلا بالوصول إلى ما يسمى بـ(البقعة المضيئة) في نفس المتلقي عن طريق ما يسمى بالتسرب الانفعالي والانزلاق الوجداني في العمق. أما التسرب الوجداني والذي يحدث نوعا من المتعة والمتجلي في الموروثات الشعبية، فلا يتأتى إلا بصدق تام من وجدان المرسل ليتسرب إلى وجدانات جميع المتلقين، لأنه يحدث ما يسمى بالعدوى الوجدانية! والعمل الإبداعي الناتج عن مثل هذا الجهد المتعدد الأبعاد يجعل القارئ أو المشاهد يعايش في أثناء قراءته أومشاهدته لهذا العمل هذا التعايش ينتج شيئاً جديداً. فعملية فهم العمل الإبداعي تقتضي أساساً محاولة الإمساك تماماً بالأحاسيس والمفاهيم التي يتوسل بها المبدع لكي ينقل طريقته في الإحساس بالحياة، فالمتلقي يجعل من هذه العناصر تأليفاً جديداً يبث فيه أحاسيسه الذاتية بما يوحي به العمل مرتبطاً بأحد الوظائف السيكولوجية الأساسية كالتفكير والوجدان والإحساس والحدس، ويشعر المتلقي بإحساسه بالنقص لتكملة الأبعاد، فيصل إلى البعد الخامس. والإحساس بالنقص أمر طبيعي عند الإنسان، وهو بمثابة دافع يدفعه إلى تحقيق المزيد من الكمال، وهو ما نحاول أن نعبر عنه بهذا العالم الذي هو عالم في الحقيقة انعكاس لوجداننا وانفعالاتنا وانعكاس أيضاً للأفكار والغرائز داخل الشخصية الإنسانية من ثقافة وعقيدة منذ أن استخدم الإنسان اللغة ليقيم جسراً بينه وبين الآخرين في محاولة للتوصل إلى مواجهة الصراع المجهول عما يجيش في عقله ووجدانه من قوى غير منظورة أو خيالية. ولذلك يجد الفرد من جمهور العامة متعته في تلقي هذه الموروثات، فهو يبذل طاقة كبيرة لتكملة الصورة، وكل من المتلقين يكوِّن الصورة التي يراها هو دون غيره وهنا تكمن المتعة.
مشاركة :