«كولن ويلسون».. ميسر لما خلق له

  • 6/18/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

«كولن «ويلسون».. كاتب بريطاني كثيف الإنتاج، ولد عام ١٩٣١م، وألف مئة وثمانية عشر كتاباً في مجالات معرفية متنوعة، وكان أشهر كتبه وأجلها وأولها صدوراً «اللامنتمي».. توفي عام ٢٠١٣.. يحدث أن يعيش الإنسانُ سنوات من حياته مغمض العينين عن الدرب الذي يسهل عليه السير فيه، فيعاني معاناة ناقة تعسرت ولادتها، ولم تزهق الآلام روحها، حتى يأتي الله بالفرج! وهذا العناء الذي يحياه الكثير من الناس.. عاناه صديقنا «كولن ويلسون»، الذي ولد في أسرة كادحة، أمه ربة بيتٍ، وأبوه يكدح في معمل أحذية مقابل ثلاثة جنيهات في الأسبوع، يمضي عامة نهاره في العمل المضني، ويحاول في المساء تبديده بشرب البيرة الرخيصة في حانة ما.. وتتدرج الحياة بـ»كولن ويلسون»، فكرة، فرضيعاً فصبياً، ففتى يحاول أن يرسم لنفسه طريقه في الحياة، كان حلم يقظته منذ الثانية عشرة أن يكون خليفة أينشتاين، عالماً كبيراً من علماء الطبيعة، يحذق الفيزياء والكيمياء، ويعيش حياته بين المختبرات والمعامل والمؤتمرات.. ولكن حلمه كان يصطدم بتكوينه النفسي الذي لم يساعده على الاستمرار في تلك السبيل. في معمل للصوف كان يعمل «كولن ويلسون» عملاً رتيباً، يزود العاملات بخيوط النسيج، ويجمع نتاجهن ويرصه في صناديق، ويعود في نهاية اليوم تعيساً كئيباً يشعر أن يومه ضاع سدىً، وأن روحه ترفرف بلا معنى، وكان يجد سلوته في قراءة الشعر حتى يدركه النوم! القراءة! تلك النافذة إلى عالم مختلف عن الواقع الذي ظل مزرياً رغم تنوع المصائب وتعدد الوظائف، وجد «ويلسون» في القراءة سلوته، وصار حلمه الجديد أن يقيم بشكل دائم بين جنبات مكتبة ضخمة، يلتهم ما يتيسر من كتبها ليل نهار.. لكن الحلم شيء والواقع المرير شيء، الواقع أن «ويلسون» كان يعمل في أعمال يمقتها بشدة، في معمل الصوف مرة، وفي مختبر الفيزياء مرة، بلا رغبة ولا دافعية حقيقية. وبلا معنى لولا ما تتيحه إجازة آخر الأسبوع من فرصة للانغماس في عالم القراءة.. وفجأة يكتشف «ويلسون» وسيلة عجائبية أخرى تمنح حياته مذاقاً مختلفاً.. إنها الكتابة! يشتري «ويلسون» دفتر ملاحظات، ويكتب خواطره وأفكاره، فيشعر إذ يكتب أنه حر من كل قيد، ويوغل في الكتابة لساعات طويلة، يغدو بعدها إنسانا آخر. يقول «ويلسون» واصفاً حالته تلك: «بعد أن وضعت القلم جانبا وانتهيت من ساعات طويلة من الكتابة غمرني إحساس عارم بأنني لم أعد ذلك الشخص الذي جلس قبل ساعات ليدون هذه الملاحظات على طاولة الكتابة، كانت حالتي آنذاك كمن يدقق النظر في صورته التي يراها في المرآة يعرف عنها أشياء جديدة لم تكن لتخطر له على بال من قبل، ومنذ تلك اللحظة صارت الكتابة لي بمثابة البئر العميق الذي أطرح فيه كل ما يمثل عائقاً أمامي من قلق وشك متعب في قدراتي الذاتية». (حلم غاية ما، ص ١٦٥) عرف «ويلسون» إذاً! وبقي أن يمضي سنوات عدة من التخبط قبل أن يسلك الدرب كما ينبغي له! بسذاجة الصغار، يقرر تأليف كتابٍ يجمع المعرفة البشرية في مجلد واحد، ويدفعه هذا إلى محاولة جادة للاطلاع على كل شيء يستطيع الاطلاع عليه، كي يلخصه في كتابه المستحيل الذي أدرك استحالته لحسن الحظ بعد مدة من السير في رحلة تبدو بلا نهاية. لكنه غدا بعدها قارئاً نهماً، يكافح ضجره من العالم بالقراءة، والمزيد منها، التهم في تلك السن المبكرة الأدب الروسي عن بكرة أبيه، وتضلع من تاريخ الفن، وقرأ في التاريخ والفلسفة والفكر كثيراً كثيراً، وأخذ طموحه نحو أن يكون كاتباً يترسخ في نفسه، وعاش «ويلسون» سنوات من الكدح في سبيل الرزق، تنقل فيها بين عشرات من الأعمال المجهدة، وذاق فيها التشرد والجوع، وجرب النوم في الشوارع والحدائق، والاقتيات على ثمار الأشجار الوحشية في البرية. في السادسة والعشرين من عمره، وفي ظروف قاسيةٍ للغاية، صدر كتابه الأول: «اللامنتمي» الذي كان قنبلة ذات دوي صاخب، وصار واحداً من أكثر الكتب مبيعاً في العالم، والذي نقله إلى طور مختلف، فغدا كاتباً مرموقاً، تذكره الصحافة بالمدح والقدح، وتستضيفه جامعات العالم أستاذا زائرا ومحاضراً.. وظل «ويلسون» باقي عمره يقرأ ويكتب، أو يكتب ويقرأ.. حتى غادر الحياة بعد ثمانين عاماً، ومئة وثمانية عشر كتابا.

مشاركة :