لاقى صحيح البخاري الكثير من الرعاية والاهتمام في العصر المملوكي، فتوالت عليه الشروح والمختصرات، كما كان يُدرَّس لطلبة العلم في المدارس والأزهر، وعقد له السلاطين مجلساً خاصاً في قلعة الجبل في شهر رمضان كمظهر من مظاهر الاحتفالات الدينية في هذا الشهر الكريم. بدأ هذا المجلس في شهر رمضان سنة 775هـ/ 1373م عندما دعا السلطان الأشرف شعبان (764-778هـ/ 1362-1376م) قاضي القضاة الشافعي وعدداً من المشايخ الى حضور سماع الحديث في قصر القلعة، وكانت قراءته تبدأ في أول رمضان وتختم في السابع والعشرين منه، وظل الأمر على ذلك حتى تسلطن المؤيد شيخ (815-824هـ/ 1412-1421م) فابتدأ بالقراءة من أول شعبان إلى السابع والعشرين من رمضان. لكن في سنة 842هـ/ 1438م بدأت القراءة من بداية شهر رجب إلى نهاية رمضان، وظل الأمر بين البدء بالقراءة من رجب أو من شعبان أو القراءة فقط في رمضان متأرجحاً حتى نهاية العصر المملوكي، وكانت العادة أن البخاري يُقرأ في القصر الأسفل، فصار يُقرأ في القصر الأعلى في سنة 826هـ/ 1422م، ثم ألغي ذلك وصار يُقرأ في جامع القلعة في عهد السلطان الغوري (906-922هـ/ 1501-1516م). كان يُعين في هذا المجلس أحد رجال الحديث لقراءة البخاري لعلمهم بأحكام القراءة وطريقتها، ففي رمضان سنة 775هـ/ 1373م كان يتناوب على قراءته شهاب الدين أحمد بن العرياني وزين الدين العراقي (ت: 806هـ/ 1403م)، فكان كل منهما يقرأ يوماً، وكان القارئ في سنة821هـ/ 1418م الشيخ شمس الدين الحبتي (ت:824هـ/ 1421م) الذي وصف بأن له اليد الطولى في قراءة البخاري. أما قارئ البخاري في سنة 827هـ/ 1423م فكان نور الدين السويفي إمام الملك الأشرف برسباي (825-841هـ/ 1422-1437م)، ثم استقر عوضاً عنه برهان الدين البقاعي (ت: 885هـ/ 1480م) في 4 رجب سنة 842هـ/ 20 كانون الأول (ديسمبر) 1438م، وقد نال استحسان الحاضرين لجودة قراءته وفصاحته، وفي رمضان سنة 849هـ/ كانون الأول 1445م كان القارئ البرهان بن خضر نيابة عن البرهان البقاعي- صاحب الوظيفة- بحكم غيبته، ثم عُزل البقاعي في رجب سنة851هــ/ سبتمبر1447م، وعُين مكانه جلال الدين بن الأمانة. ثم صرف عنها الشيخ جلال الدين بن الأمانة، وقُرر مكانه ابن المجبر (ت:857هـ/1453م) في سنة852هـ/ 1448م، لكنه ما لبث أن صُرف في السنة التي تليها وتولى مكانه الشيخ ولي الدين الأسيوطي. وممن تولى قراءة البخاري في القلعة الشيخ شهاب الدين الأميوطي السكندري وقد ظل على ذلك حتى توفي سنة872هـ/ 1467م، كما تولى القراءة في سنة872هـ/ 1467م شهاب الدين المقرئ. وكان القارئ في الفترة (874-875هـ/ 1469-1470م) برهان الدين الكركي، ويبدو أنه ظل هو القارئ حتى غضب السلطان عليه وعزله سنة 885هـ/ 1480م، وولي مكانه في وظيفة القراءة في القلعة الشيخ جمال الدين الكركي (ت:899هـ/ 1493م) في سنة886هـ/ 1481م، كما تولى الشيخ محب الدين محمد الحجازي الحنفي (ت:922هـ/ 1516م) قراءة البخاري بالقلعة في عهد السلطان قانصوه الغوري، وبعد وفاته تولى مكانه الشيخ صلاح الدين القليوبي الذي خرج معه إلى الشام في سنة922هـ. وقد سعى بعض من لا دراية لهم بعلم الحديث إلى تولي هذه الوظيفة مثل شمس الدين الهروي (ت: 829هـ/ 1425م) الذي عين قارئاً للمجلس في سنة 821هـ/ 1418م بعد أن اختلق لنفسه إسناداً ليقرأ به، ونظراً الى دخول مثل هذا وغيره من باب المجاملة، فقد كثر خطأ القارئ ولحنه في القراءة، ولهذا كان القاضي الشافعي يرد على القارئ الأسماء التي تُبدل أو تحرف من الإسناد، وأحياناً يحدث النزاع على من يقرأ الحديث كالنزاع الذي حدث بين بدر الدين القاهري الشافعي وعز الدين الفيومي، وفي نهاية القراءة كان القارئ يدعو للسلطان وللقاضي الشافعي ثم لبقية القضاة بعده. كانت العادة تقتضي من أيام الأشرف شعبان أن يحضر قاضي القضاة الشافعي وطائفة قليلة العدد لسماع البخاري فقط، ولم يزل الأمر على ذلك حتى تسلطن المؤيد شيخ فاتسعت دائرة الحضور، فحضر القضاة الأربعة والفقهاء والكثير من الطلبة والأعيان، وكلما كثر الجمع عظم الأجر والثواب كما يقول ابن تغري بردي، وفي سنة827هـ/ 1423م استجد الأشرف برسباي حضور كاتب السر ونائبه وناظر الجيش. ثم زاد العدد في سنة 842هـ/ 1438م إلى مئة شخص وظل الأمر في زيادة مستمرة. وكان السلطان يحضر هذه القراءة، ويستغل هذا الجمع ليطرح ما أشكل عليه من قضايا دينية، كما حدث أثناء ختم البخاري في سنة841هـ/ 1437م. كان يناقش أثناء قراءة البخاري الكثير من الموضوعات التي تتعلق بموضوع القراءة، ويبدي فيها بعض ممن ينتسب للعلم الكثير من الترهات والنوادر التي تكون في كثير من الأحيان سبباً في حدوث اللغط، وقد بدأت تزداد حدة هذه المناقشات مع تزايد عدد الحاضرين من الطلبة وغيرهم، وبعضها كان يخرج عن الحد فيسيء فيها بعضهم لبعض إساءات بالغة، ولهذا كان السلطان يشترط عليهم عدم اللغط في المجلس. فلما كثر اللغط، أفرد السلطان الطلبة الذين زاد عددهم في مجلس في القصر الأسفل وجعل لهم الشيخ سراج الدين (ت:829هـ/ 1425م)، ولكن هذه العزلة لم تمنع الطلبة بخاصة الذين يحبون الظهور من إثارة اللغط وإساءة الأدب، فزجروا مراراً فلم يزجروا، فأمرهم السلطان في سنة834هـ/ 1430م بالقراءة داخل القصر الأسفل، وصار هو يجلس في شباك منفرد في القصر الأعلى يشرف عليهم منه واستمر الأمر على ذلك سنين، ونتيجة لما سبق أمر السلطان في سنة830هـ/ 1426م من حضر المجلس بعدم البحث لأن هذا المجلس هو مجلس سماع للحديث لا مجلس مباحثات ومناقشات. ونظراً لعدم امتثال هؤلاء لكلام السلطان، فقد أمر في سنة838هـ/ 1434م قاضي القضاة الشافعي ابن حجر العسقلاني (ت:852هـ/ 1442م) بأنه إذا حضر مجلس السماع في القلعة أن يُحضر معه العصى ويضرب بها من يتجاوز الحد في بحثه أو كلامه حتى يردعه، وأكد ذلك الأمر، لكن هذا الفعل لم يأت بنتيجة، فأمر السلطان في سنة 840هـ/ 1436م أن يجلس الأعيان في ناحية وغيرهم في ناحية أخرى ليخفف اللغط، وأمرهم بالسكوت فما تكلم أحد في هذه المرة عدا القاضي الشافعي الذي رد على القارئ خطأه في الإسناد والتصحيف. ونتيجة لما سبق كان المقريزي من أشد المعارضين لهذه المجالس، نظراً الى ما يحدث فيها من مشادات وإساءات وغير ذلك، فيقول: «وهذا المجلس منكر في صورة معروف، ومعصية في ذي طاعة، وذلك أنه يتصدى للقراءة من لا عهد له بممارسة العلم، لكنه يصحح ما يقرأه، فيكثر مع ذلك لحنه وخطأه وتحريفه، هذا ومن حضر لا ينصتون لسماعه، بل دائماً دأبهم البحث عن مسألة يطول صياحهم فيها، حتى يفضي بهم الحال إلى الإساءات التي تؤول إلى أشد العداوات. وربما كفر بعضهم بعضاً، وصاروا ضحكة لمن عساه يحضرهم من الأمراء والمماليك..».. وعلق عبدالباسط الحنفي على هذه التجاوزات بقوله: «وصار هذا الأمر يكبر في المجلس والصياح والمخاصمات وإساءة البعض لبعض لأجل المباحث، وخرج حضور هذا المجلس عن كونه طاعة إلى كونه معصية»، ولكن ابن تغري بردي كانت له وجهة نظر أخرى، فيقول تعليقاً على ما سبق: «أما الصياح فلم تبرح مجالس العلم فيها البحوث والمشاحنة، ولو وقع منهم ما عسى أن يقع فهم في أجر وثواب، وليس للاعتراض هنا محل بالجملة»، وعلى رغم الاعتراضات فقد استمر الوضع على ما هو عليه حتى نهاية العصر المملوكي، ولم تجد محاولات بعض السلاطين نفعاً في الحد من ذلك. كان المشايخ في نهاية رمضان يختمون البخاري وسط حفل كبير يحضره السلطان والأمراء وغيرهم وتلقى فيه المدائح النبوية والسلطانية، وتفرق فيه الأموال والخلع على المشايخ والقراء والمادحين، ففي رمضان سنة 820هـ/ 1417م صرف السلطان للفقهاء الذين زاد عددهم على الستين لكل واحد منهم ألف درهم، وفي رمضان سنة821هـ/ تشرين الأول (أكتوبر) 1418م ختم البخاري في القلعة وفرق على الحاضرين من الفقهاء وعددهم سبعون مئة وأربعون مؤيدياً لكل واحد، وخلع على قاضي القضاة شمس الدين الهروي جبة صوف بفرو السمور. كما خلع السلطان في رمضان سنة 827هـ/ يوليو1423م على أكثر من عشرين فقيهاً صوفاً مربعاً بسنجاب طري، وخلع على القضاة الأربعة عدداً من الطرح، وعلى القاضي شمس الدين الهروي كاملية خضراء بفرو سمور، وخلع على القاضي البدر العيني صوفاً مربعاً بسنجاب طري، وعلى القارئ والمادح وأكثر من مئة طالب من جميع المذاهب الكثير من الفلوس. وكانت العادة من أيام الأشرف شعبان أن يخلع على قاضي القضاة الشافعي، ويركب بغلة بزناري تخرج له من الإسطبل السلطاني. ثم جدد السلطان برسباي للمشايخ الذين يحضرون السماع في ختم سنة827هـ/ فراجي بسنجاب، وهو أول من فعل بهم ذلك، وكان عددهم نحو عشرين ثم ازداد الأمر إلى أن زادوا على المئة في رمضان 842هـ/ شباط (فبراير) 1438م ثم قطع ذلك عنهم في رمضان 846هـ/ كانون الثاني (يناير) 1443م، وكانت العادة القديمة أن البخاري يختم بالقصر الكبير، فألغي ذلك وصار يختم في الحوش السلطاني بدءاً من سنة891هـ/ 1486م حتى نهاية العصر المملوكي. ومع منتصف القرن التاسع الهجري نلاحظ كثيراً أن البخاري لم يعد يقرأ إلا في يوم الختم، فيقرأ ويختم في اليوم نفسه وتوزع الصرر والخلع، كما حدث في سنة891هـ/ 1486م، وسنة 892هـ/ 1486، وقد استمر هذا المجلس على رغم ما حدث به من سلبيات حتى نهاية العصر المملوكي، فقد ذكر ابن إياس أنه ختم في سنة921هـ/ 1515م، وأحياناً يتغيب السلطان عن المشاركة في الحفل كما حدث في سنة887هـ/ 1482م. وقد استمرت عادة قراءة صحيح البخاري في القلعة بعد سقوط الدولة المملوكية، وقد أخذ ابن إياس في المقارنة بين الاحتفال في العصر المملوكي والعثماني فقال: «وشتان بين هذا الختم، وما كان يعمل في ختم السلاطين الماضية في مثل هذا اليوم».
مشاركة :