الأزمة الإنسانية التي تعرضت لها مدينة حلب السورية مؤخراً إثر القصف السوري الروسي لها، ألقت بظلال كئيبة على أكبر الإمبراطوريات الافتراضية في العالم "فيسبوك"، وأشعلت حرباً دارت رحاها بين نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي ومؤسس فيسبوك شخصياً "مارك زوكربيرغ". فيسبوك الذي يعد من أقوات الأدوات المؤثرة في تشكيل الرأي العام العالمي، وقع في فخ "المواقف المتناقضة" التي رصدها النشطاء، مطالبين مؤسسه باتخاذ مواقف متوازنة نسبياً من الأحداث العربية والعالمية، وهو يشبه إلى حد كبير ما يحدث في العالم السياسي الواقعي حين تتجه المطالب لأكبر المؤسسات الدولية الأمم المتحدة وغيرها بعدم الكيل بمكيالين وبالتعامل مع الأزمات وفق مبدأ إنساني واحد. الحملات الإلكترونية التي أعقبت سلسلة الغارات على حلب ومشاهد قتل المدنيين الأبرياء، انطلقت بقوة باتجاه الدعوة لمقاطعة فيسبوك وتعطيل الحسابات لمدة 24 ساعة كتجربة أولى، وهو ما أرق "مارك" شخصياً وأرغمه على الرد على تلك الحملات دون أن يُذعن لمطلبها القاضي بإضفاء اللون الأحمر على الموقع تعبيراً منه عن مساندته للأزمة الإنسانية في حلب وحق المساواة مع ضحايا فرنسا وبلجيكا حين أتاح للمستخدمين تلوين الصورة الشخصية بلون العلم الفرنسي بعد الهجمات التي طالت باريس في نوفمبر/تشرين الثاني 2015. "دبلوماسية" مارك .. هل تنجح؟ مارك حذا حذو الشخصيات السياسية الدبلوماسية في تعليقه الذي جاء فيه: "فيسبوك سيقوم بتقديم الدعم والتغطية الإعلامية لإنقاذ حلب، وأيضاً التواصل مع الأمم المتحدة ومكاتب اليونيسكو، شكراً لتذكيرنا". وأضاف: "نحن نهتم بكل الناس على حد سواء، ونحن سوف نعمل بجد لمساعدة الأشخاص الذين يعانون في كثير من هذه الحالات بالشكل الذي نقدر عليه". لكن النشطاء رأوا في هذه التصريحات مجرد "تطمينات غير جدية"، معتبرين أن الأولوية للفعل لا للقول فقط. وكان مؤسس فيسبوك قد حاول إبداء اهتمامه بالجمهور العربي حينما عقب على التصريحات العنصرية للمرشح الرئاسي الأميركي، دونالد ترامب، على شبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث خاطب مارك المسلمين بقوله: "كيهودي علمتني أسرتي الدفاع عن الآخرين.. والمسلمون الذي يستخدمون فيسبوك سيبقون موضع ترحيب على تلك المنصة". وهو رد يمكن أن يُوصف بالدبلوماسي والاستباقي لامتصاص أي نقمة عربية متوقعة ضده ونزع فتيل أية مواجهة محتملة مع الجمهور العربي الذي يزداد باطراد كبير. رسالة النشطاء.. "إنسانية" حالة السجال والاختلاف في العالم الافتراضي تؤكد أن جمهور شبكات التواصل ليس جمهوراً "عابراً" ولكنه يراقب ويقارن، بل صاحب مبادرة وموقف وتأثير في الميدان في كثير من الأحيان، وهو ما يحمل رسالة واضحة إلى أصحاب الإمبراطوريات الافتراضية الكبرى، وعلى رأسها فيسبوك، بعدم تبنّي سياسات متناقضة مثل التي يتبناها السياسيون في أروقة المؤسسات السياسية العالمية الواقعية. النشطاء العرب وجدوا ضالتهم في موقف فيسبوك السلبي من الجرائم الإنسانية في حلب؛ حيث انهالت عليه آلاف التعليقات المنتقدة لتجاهله ما يجري في حلب، وتدعوه إلى التعامل مع الأزمات الإنسانية بمنطق إنساني موحد دون اعتبار لجنسية أو عرقية أو دين وغيره، وإرغامه على عدم استخدام سياسة "الكيل بمكيالين" تجاه تلك الأزمات المتفاقمة. وهي المرة الأولى التي تشهد العلاقات بين الجانبين سخونة تطفو على السطح بصورة واضحة، رغم أن بعض التوترات كانت قبل ذلك على خلفية مواقف الفيسبوك من بعض الأحداث أيضاً. وبذلك يكون النشطاء العرب قد دشنوا مرحلة جديدة ومتقدمة من مراحل استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، وهو الدور الذي عمل البعض على إفراغه من محتواه ومهاجمته والتشهير بنشطائه بل ملاحقتهم ومعاقبتهم واعتقالهم. إدارة الأزمات العالمية بـ"الفيسبوك" وثمة تساؤل يتعلق بهذه الرؤية الجديدة للنشطاء، هل شبكات التواصل الاجتماعي لها دور حقيقي فاعل خلال الأزمات العالمية؟ أم أن الموضوع فيه قدر من المبالغة والتضخيم والإثارة؟ في أعقاب الانفجارات التي شهدتها العاصمة البلجيكية بروكسل مؤخراً، عملت إدارة الفيسبوك مباشرة على تفعيل تطبيق "SAFETY CHECK"، الذي حمل اسم "Brussels Explosions" بهدف تمكين عائلات وأصدقاء المتواجدين في العاصمة البلجيكية بروكسل من التحقق بأنهم بأمان، وجاء هذا التطبيق امتداداً لتطبيق سابق اسمه "Paris attack terror" دشنه فيسبوك لأول مرة في أعقاب الانفجارات التي هزت العاصمة الفرنسية باريس في 14 نوفمبر 2015 . لكن هل أقدم مؤسس فيسبوك على نفس الخطوة فيما يتعلق بأزمة اللاجئين السوريين المشردين في منافي الأرض، الذين تقطعت بهم الأسباب على الحدود الدولية وباتت الأسرة مشردة ومشتتة في أكثر من مكان؟! لا نجد إجابة عملية من خلال تطبيق يرمز إلى معاناتهم وخصوصية أوضاعهم. نتائج الأبحاث العديدة والمؤشرات المختلفة تدلل جميعها على أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه شبكات التواصل الاجتماعي، وخاصة (فيسبوك وتويتر ويوتيوب) في الاستجابة للأزمات والكوارث الطبيعية. ويمكن أن نستذكر في هذا الإطار دورها خلال أعاصير "إيرين وساندي وبوفا"؛ حيث أثبتت منصة تويتر قوة حضورها وفاعليتها في عمليات تنسيق الملاجئ والمواد الأغذية وغيرها من جهود الإغاثة للمتضررين وإطلاق الوسوم التضامنية وغير ذلك، إلى جانب استخدام خرائط جوجل في الوصول إلى الجماهير والفئات المتضررة أثناء الأزمات. سيناريوهات المواجهة القادمة ويبدو أن السيناريوهات القادمة المتعلقة بهذا الإطار ستتخذ عدة اتجاهات مستقبلاً في إطار الصراع الخفي والمعلن بين إدارة الفيسبوك والإمبراطوريات الافتراضية الأخرى، مثل تويتر، وبين نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي. وتنطلق تلك السيناريوهات من محورين رئيسيين، هما: محور يتعلق بإدارة فيسبوك ذاتها ومدى إتاحتها المجال لاستخدام تطبيقات ذات علاقة بإدارة الأزمات وابتكار المزيد منها، أما المحور الآخر فيتعلق بالمستخدمين أنفسهم، سواء أكانوا أفراداً أو حكومات ومؤسسات، وطبيعة هذا الاستخدام، ومدى الاعتماد على الفيسبوك كأداة فاعلة من أدوات الاستراتيجيات الاتصالية والإعلامية. ومن قراءتي للسيناريوهات المتبعة من قِبل إدارة فيسبوك لأزمة حلب وما أعقبها من أزمات مماثلة ومطالبة النشطاء العرب بموقف مماثل للمواقف التي اتخذها من قبل وتهديدهم بوقف التعامل معه لمدة محددة، يمكن أن نضعها في الإطار الآتي: • تنتهج إدارة فيسبوك مع النشطاء العرب على وجه الخصوص سياسة "الاستيعاب الهادئ" حرصاً على استمرار العلاقة، ومن خلال منحهم تطمينات معنوية غير جدية ولا عملية، كما أثبتت الأحداث والمواقف. • تنبه النشطاء العرب لمواقف فيسبوك المتباينة من الأزمات العالمية، وخاصة العربية منها، دفعهم لانتهاج سياسة "دفع الأزمة إلى مرحلة متقدمة" من خلال إجراءات عملية يمكن في البداية أن تكون محدودة التأثير ولكن يتوقع أن يزيد تأثيرها مستقبلاً. سخونة الأحداث وتوالي الأزمات في المنطقة العربية قد يدفع نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي باتجاه تركيزهم على تعزيز سياسة "دفع الأزمة للأمام" والتصدي بقوة متزايدة لسياسة التمييز في التعامل مع الأزمات الإنسانية، وهو ما قد يفرض حقائق جديدة لا يمكن لسياسة "الاستيعاب" القائمة أن تواجهها وتحد من انتشارها وقوة تأثيرها، وهو ما سيرغم إدارة فيسبوك على إعادة النظر في سياستها للتعامل مع أزمات المنطقة العربية، وعدم تجاهل حضور وقوة تأثير جمهور شبكات التواصل الاجتماعي العرب. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :