تعتري المجتمعات أحياناً حالات من التأرجح بين ما تختزنه من ذاكرة تاريخية من جهة، وما تتطلبه ظروف الحياة الفعلية على أرض الواقع من جهة أخرى. وفي موضوع قديم ومتجدد، نجد الاهتمامات في أوساط المثقفين والشباب من الجنسين تكاد ترتبط بمفهوم تنافسي قديم سيطر على أذهان فئات متعددة من المجتمعات العربية القديمة. إذ كان كثير من العرب يحرصون على خلق فكرة عنهم لدى الآخرين، بأنهم ليسوا مثل غيرهم، ويحرص قائلو الشعر وكافة أنواع الأدب على قول شيء مختلف عما ألفوه عند الشعراء أو الأدباء من قبلهم. ومن هنا بدأت المقولات النقدية في مجالس الشعر وأسواق العرب بأحكام تنطلق من التراتبية، وليس اعترافاً بالتعددية، التي يفترض أنها هي الأساس في الفكر، وطرق التعبير المختلفة عنه. فوجدنا تلك الأحكام تتراوح بين صيغة «أفعل من»، أو صيغة «الأفعل»، وليس هناك مجال للنسبية في موضعة ما يقال آنياً، أو على إطلاق الموضوع في التاريخ بكامله، ليكون متوقفاً على المواقف التي استدعته، ومرتبطاً بمدى القدرة على التعبير عنه. ولم يستغرب المؤرخون، أو قراء الأدب ومتذوقوه، من امتلاء كتب النقد العربي بأحكام مطلقة، مثل: «والله إنك لأشعر العرب!»، أو: «أفضل ما قيل في كذا.. قول الشاعر الفلاني». وتعددت أشكال التفاخر بما يظن أحدهم أنه يتميز به مجتمعه عن بقية مجتمعات البشر، ويتميز به هو عن بقية أفراد المجتمع ومجايليه، بل وأحياناً حتى كل من يشترك معه في أي من النشاطات التي يمارسها. وبدأت الشعارات تتشعب إلى مقولات إقصائية، من مثل: «لنا الصدر دون العالمين أو القبر!». أما خلفهم في العصر الحديث، فقد كان مجال التنافس لديهم منحصراً في التراتبية اللفظية أو الشكلية أو الأشياء التي لا دور للشخص المفتخر بها في الاتصاف بأي مما يقال عنه أو يود أن يوصف بها فحسب، إذ بدأت تلك الزرافات من الشباب، وأحياناً حتى بعض الأفراد من كبار القوم والتجار ورجال الأعمال، بالسعي إلى ما يميزهم عن غيرهم بغض النظر عن مدى حاجتهم إلى ذلك المسعى، أو صحة ما يتنادون إليه، وما يحرصون على الاتصاف به من ألقاب. فقد وجدنا التاريخ يعيد نفسه مع بداية ما يسمى بعصر النهضة الحديثة؛ حيث صار التصنيف هو المهيمن على كل صناعة، بدءاً بالحرص على تسمية أحد الشعراء أميراً لهم (وكان أحمد شوقي هو من احتل تلك المنزلة، ولم يأت بعده أمير آخر)، وإطلاق لقب «عميد الأدب العربي» على طه حسين (وأظنه بقي على عمادته إلى الآن)، بأي صفة أو آلية اختيار أو تنصيب، لا أحد يسأل، ولا يهتم، و«كوكب الشرق» للسيدة أم كلثوم، و«فنان العرب» للمغني السعودي محمد عبده. بل وامتدت تلك التصنيفات إلى الأندية الرياضية، وبعض أعلام المهن الأخرى؛ فكان لقب «القلعة» من نصيب النادي الأهلي السعودي، و«العميد» من نصيب نادي الاتحاد السعودي، و«الزعيم» من نصيب نادي الهلال السعودي، وسموا نادي النصر السعودي بالعالمي، ونادي الشباب السعودي بالليث، إلى غير ذلك من الألقاب. لكن الأخطر في قضية التمسك بهذه الثقافة العربية الأصيلة، أن مبدأ التميز أصبح أيقونة يحرص عليها كثير من الفارغين، وقليلي الإنجاز في أي مجال، وسايرتهم في ذلك شركات التسويق بنشاطاتها المتعددة. فلم نعد نرى دعاية تخلو من مخاطبة هذا الحس الثقافي الموروث، فأنت أيها الشاب ستكون متميزاً إن اشتريت هذا المنتج، أو ستكونين أيتها السيدة متميزة إن أدخلت هذا أو ذاك إلى منزلك!
مشاركة :