تعيش دول مجلس التعاون الخليجي مرحلة من التغيرات السريعة بالتزامن مع انخفاض سعر برميل النفط الخام من 100 دولار أمريكي إلى أقل من 50 دولارًا خلال الشهور الثمانية عشرة الماضية. وقد أتاح استقرار أسعار النفط عند مستويات مرتفعة بين عامي 2012 و2014 لدول المجلس فرصة جني عائدات نفطية تناهز قيمتها 3 تريليونات دولار أمريكي، ما يعني أن حكومات تلك الدول المجلس باتت تمتلك احتياطيات نقدية كبيرة. إلا أن تلك الاحتياطيات لن تساعد دول المجلس إلا على المدى القصير لأنها تعتمد بشكل كبير للغاية على عائداتها النفطية وتفتقر سياساتها إلى التنويع الكافي لمواردها الاقتصادية، ما أدى إلى اعتبار معدل النضوب المحتمل لتلك الاحتياطيات مصدرًا رئيسيًا للقلق حول آفاق المستقبل. ومن حيث المبدأ، تحتاج حكومات دول المجلس إلى أسعار تفوق بكثير مستوى 50 دولارًا أمريكيًا للبرميل لكي تتمكن من موازنة ميزانياتها. وفي الواقع، فإنّ أسعار النفط أقل بكثير من المطلوب، لذا فإنّ منطقة دول مجلس التعاون الخليجي ستواجه سلسلة من السنوات المتعاقبة من العجز المالي وعجز في الحسابات الجارية، وهي عجوزات ينبغي تغطيتها إما عبر سحب المزيد من الأموال من الاحتياطيات وإما عبر الاقتراض. ومن هذا المنطلق، سوف أحاول تحليل التحديات المالية التي سوف يشكلها انخفاض أسعار النفط على أربعة قطاعات متضررة بعينها وهي الحكومات والمصارف والشركات والأفراد. الحكومات تتحمل حكومات دول مجلس التعاون الخليجي الجانب الأكبر من أعباء تلك العجوزات، خاصة أنها تتميز بهيكل إداري بيروقراطي متضخم ونفقات متزايدة (يعود سببها إلى حد كبير إلى الرواتب والدعم السعري). لذلك، تفتقر تلك الحكومات إلى المرونة الكافية للتحرك نظرًا إلى انتهاجها نظام الرفاهية الاجتماعية الراهن واعتمادها العقد الاجتماعي القوي الذي يربطها مع مواطنيها. ورغم أنه لا بد من أن يتصدر ترشيد الدعم وتخفيض الانفاق المسرف أولويات تلك الحكومات، فإن ذلك قد لا يخفض العجوزات بالشكل المطلوب والسرعة الكافية في الإطار الزمني المحدود المتاح للقيام بذلك. ومن هنا نستنتج أن تمويل العجوزات المتنامية يشكل أكبر التحديات التي تواجه حكومات دول المجلس. ويقدِّر صندوق النقد الدولي حجم العجوزات المالية لدول المجلس عام 2016 بنسبة 12% من إجمالي نواتجها المحلية أي ما يعادل 150 مليار دولار أمريكي. وأتوقع أن تغطي تلك الدول تلك العجوزات بمزيج حكيم من السحب من الاحتياطيات والاقتراض من الأسواق المحلية والأجنبية. وتشير تقديرات شركة مارمور لأبحاث وتحليلات الأسواق إلى أن المديونية المتراكمة لدول المجلس سوف ترتفع إلى ما يتراوح بين 250 و390 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2020، ما يشكل قفزة كبيرة لتلك المديونية التي بلغت 72 مليار دولار أمريكي خلال الفترة الواقعة بين عامي 2008 و2014. وسوف تؤثر مثل هذه الزيادة الضخمة في المديونية سلبًا في الاقتصاد بأكمله بطرق عدة. ففي عام 2015، اضطرت السعودية للمرة الأولى في ثماني سنوات إلى اقتراض نحو 26 مليار دولار أمريكي من البنوك المحلية. كما تحاول الحكومة السعودية اقتراض 10 مليارات دولار أمريكي من ائتلاف من المصارف الدولية في إطار سعيها لمواجهة العجز المتنامي لميزانيتها. ومن الجدير ذكره أن ذلك سوف يؤدي إلى تخفيض التصنيف الائتماني للمملكة نتيجة لارتفاع نسبة المديونية إلى إجمالي الناتج المحلي. وقد تم مؤخرًا تخفيض التصنيف الائتماني للديون السيادية لكل من البحرين وسلطنة عُمان والسعودية، ومن المتوقع أن تتبعه المزيد من تخفيضات التصنيفات الائتمانية في المستقبل. وسوف تكون أسعار فوائد مقايضة القروض من أبرز السلبيات. ففي خلال الشهور الستة الماضية، تضاعفت أسعار فائدة مقايضة القروض في كل من أبوظبي وقطر والبحرين بينما زادت ثلاث مرات في السعودية. كما سوف تزيد الظروف الراهنة للاقتصاد الكلي كلفة حصول الحكومات على الأموال. المصارف سوف يشكل انخفاض مستويات السيولة التحدي المالي الأكبر الذي سوف تواجهه المصارف التي تعتمد إلى حد كبير على ودائع الحكومات التي شهدت بدورها تراجعًا كبيرًا. ومع ركود نمو الودائع سوف تنخفض قدرة المصارف على منح القروض بسعر فائدة مقايضة قروض متدنٍ ما سوف يؤثر سلبًا في ربحيتها. من ناحية أخرى، سوف تشهد إصدارات السندات السيادية إقبالاً كبيرًا على الاكتتاب من قِبَل المصارف نظرًا إلى ارتفاع عائداتها وطبيعتها الخالية من المخاطر، ما سوف يزيد من تراجع قدرتها على إقراض القطاع الخاص. وسوف يؤدي الضغط الذي سوف يفرضه هذا التوجه على هوامش مقايضة المصارف لقروضها إلى انخفاض ربحيتها. إضافة إلى ذلك، سوف تؤدي التحديات المالية التي تواجه الشركات إلى تدهور جودة أصولها وارتفاع قيمة أصولها المتعثرة، ما سوف يؤدي بدوره إلى استمرار تراجع التصنيف الائتماني للمصارف. الشركات سوف يؤثر التنافس على القروض المصرفية بين القطاعين العام والخاص بشكل مباشر على القطاع الخاص نظرًا إلى ازدياد صعوبة الاقتراض وارتفاع أسعار فوائده. يذكر أن الكثير من الشركات لا يزال يعتمد حتى الآن على الانفاق الحكومي حصرًا للفوز بمشاريع جديدة. وحيث إنَّ الحكومات لن تجد مفرًا من تأجيل العديد من مشاريعها نظرًا إلى الظروف الاقتصادية الراهنة، فقد يتأثر رأس المال العامل للكثير من الشركات سلبًا نتيجة لذلك. وتم تخفيض المبالغ المدفوعة مقدمًا لتنفيذ المشاريع التي تدفعها الحكومات للشركات من 20% إلى 5% من قيمة العقود. وحيث إنَّ الشركات تقصد المصارف لتمويل معظم احتياجاتها على المديين القصير والمتوسط، فقد يصبح الحصول على هذا التمويل أصعب وأعلى كلفة نظرًا إلى الضغوط التي تتعرض لها المصارف نتيجة انخفاض سيولتها وارتفاع أسعار فائدة مقايضة قروضها. وقد تصبح أسواق الاقتراض مصدرًا جذابًا لتمويل الحكومات وليس لقطاع الشركات نظرًا إلى مطالبة المقرضين بهوامش أوسع نطاقًا. يذكر أننا لاحظنا انخفاض حجم السندات التي تصدرها الشركات نظرًا إلى شح السيولة. وحينما يكون التمويل ضروريًا للغاية فسوف يتم توفيره بكلفة أعلى على رأس المال وبشكل يفرض المزيد من الضغوط على الهوامش والأرباح. كما قد تتأثر ربحية الشركات جراء فرض ضريبة القيمة المضافة (فات). وسوف تترك هذه التطورات تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على الشركات الصغيرة والمتوسطة التي سوف تكون أكبر المتضررين. الأفراد سوف يواجه الأفراد أشكالاً عدة من التحديات المالية، حيث سوف يتم أولاً تخفيض الدعم الحكومي السخي بصفة خاصة على السلع الأكثر دعمًا وهي البترول والماء والكهرباء. ومع تراجع الدعم، سوف ترتفع كلفة الخدمات ما سوف يؤدي بدوره إلى ارتفاع معدل التضخم. كما سوف تتراجع فرص حصول الأفراد على التمويل المصرفي نظرًا إلى تشديد إجراءات الاقتراض. وفي الوقت نفسه تزداد تكاليف الاقتراض أيضًا. وقد تؤدي هذه الظروف السوقية إلى ازدياد حجم القروض المتعثرة. يذكر أن معظم مواطني دول مجلس التعاون الخليجي يعملون لدى القطاع العام استنادًا إلى عقد اجتماعي ضمني يفرض على الحكومات توفير فرص العمل للمواطنين. كما أن سنوات طويلة من الزيادات السخية في الرواتب الحكومية جعلتها أكثر جاذبية. إلا أن شح السيولة سوف يحد من قدرة الحكومات على توظيف المزيد من الموظفين في القطاع العام. الفرص يمكننا اعتبار التحديات فرصًا في الحقيقة، حيث إنَّ ارتفاع مديونيات الحكومات سوف يفرض عليها تعزيز انضباطها المالي وترشيد انفاقها والأهم من ذلك كله، تعزيز التطوير الذي تمس الحاجة إليه لأسواق الديون. وسوف تُفضي جهود ترشيد الإنفاق المسرف إلى تحسين مستويات الإنتاجية في جميع القطاعات، وسوف تدفع المصارف إلى السعي لتحسين ربحيتها عبر البحث عن فرص توسع في الأسواق الخارجية. كما سوف تشجع الظروف الاقتصادية الراهنة على تبني الحلول التي توفرها التكنولوجيا المتطورة لتخفيض كلفة الخدمات. وسوف تركز الشركات بقوة على تعزيز الكفاءة والانتاجية وربط خططها بالاحتياجات المدروسة جيدًا للأسواق. ومن المرجح أن ترتفع وتيرة عمليات الاستحواذ والاندماج بالتزامن مع قنوات التمويل البديلة أمثال الاستحواذ على حصص في أسهم الشركات الخاصة والتمويل الجماهيري وإصدار الصكوك الإسلامية. وسوف تفرض هذه المرحلة الحافلة بالتحديات على الحكومات والقطاع الخاص على حد سواء إطلاق عملية إصلاح مالي واسعة النطاق. عضو معهد المحللين الماليين المعتمدين
مشاركة :