كانت التحولات الحضارية والمدنية والثقافية في المرحلة المبكرة من (الحداثة الأوربية) مرتبطة بالنهضة التي تمتد نحو ثلاثة قرون منذ القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر، إذ تميزت النهضة باضطراب شامل وتداخل لأنماط متعددة من صور الحياة وقيمها وأنماط السلوك والمواقف والأفعال القديمة والجديدة، الشاذة والطبيعية، كان عصراً يعج بالحركة الدائبة والتغييرات الكثيرة، ومعنى النهضة هو بعث وإحياء وحرفيا ميلاد جديد، أو تكرار الميلاد ولقد أعادت النهضة بعث تراث الثقافة الكلاسيكية اليونانية والرومانية القديمة إلى الحد الذي أطلق على إيطاليا القرن الرابع عشر، «هيلاس الجديدة». لكن النهضة لم تكن مجرد بعث التراث الكلاسيكي، بل توظيفه في سياقات جديدة إذ كان عصر النهضة منذ بدايته عصر نقد وتمرد وتصميم وتشكيل، أكثر منه عصر بناء وتشييد وتعمير، ذلك لأن كثيرا من ملامح العصر الوسيط ظلت قائمة متداخلة في نسيج المجتمع الناهض، فمن الناحية الواقعية لم تنته العصور الوسطى بقيمها وتقاليدها الثقافية الراسخة، فجأة عند نقطة ما وظهر المجتمع الحديث إلى الحياة عند نقطة أخرى، بل قد احتاجت أوروبا نحو ثلاثمائة سنة للانتقال من الجو الذهني للعصور الوسطى إلى الجو الذهني للعالم الحديث، وربما كانت الميزة الأساس التي تمتاز بها النهضة في كونها أفلحت في زعزعة الأسس القديمة التي كانت تقوم عليها فكرة الإنسان والعالم والتاريخ في العصر الوسيط أكثر مما نجحت في تكوين تصور متكامل لما يجب أن يكون عليه الإنسان الحاضر والمستقبل. لقد قدمت النهضة «الثقافة» التي شكلت الأرض الخصبة لتحضير ولادة الفيلسوف والفنان والعالم والأديب والسياسي والمؤرخ والحكيم والفقيهإلخ، «لقد كان عصر النهضة يتطلب عمالقة فأنجبهم، عمالقة في قوة الفكر «والاندفاع والطبع» أمثال: كوبرنيكوس 1473 1543، وكلبر 1571 1630، وجاليلو 1564 1642، وجبلر 1540 1603م، في المغناطيس وربرت بويل 1627 1691م في الكيمياء، وليفنهوك 2632-1723م، مكتشف الحيوانات المنوية وإسحاق نيوتن 1642 1727م، مكتشف قانون الجاذبية وقوانين الحركة الديناميكية، لقد عززت الاكتشافات العلمية من ثقة الإنسان بقدراته يقول الشاعر: «لقد كانت الطبيعة وقوانينها محجوبة في الليل» كما شهد عصر النهضة أهم الاكتشافات الجغرافية للمناطق المجهولة فقد ألقى الإسباني كولمبس مراسيه في العالم الجديد عام 1492م، وألقى البرتغالي فاسكودي جاما مراسيه على ساحل الهند الغربي 1498م واستطاع ماجلان في السفينة فكتوريا أن يدور لأول مـرة حول الأرض (1519 1522)، وغير ذلك من الاكتشافات الجغرافية، وعلى صعيد الفلسفة والأدب والتاريخ والسياسة، هناك كوكبة لامعة من الأسماء التي ازدهرت في عصر النهضة أمثال جوردانو برونو (1548 1600م) وبيك دولامير أندول 1494 وتوماس مور (1487 1535م)، ونقولاي ماكيافيلي (1467 1527م)، وكأمبلانيلا ومارسين فيسين 1499 كل هذا الزخم الثقافي العلمي الفني الأدبي، ترافق مع حركة الإصلاح الديني على يدي لوثـر (1483 1546م) وكلفن 1506 1564م)، وزونغلي (1484 1531م)، الذين نادوا بإصلاح الكنيسة وبالخلاص الفردي، ولم تكن هذه النهضة الثقافية الشاملة في حقيقة أمرها إلا حصيلة تفاعل جملة من العوامل والقوى الاجتماعية والاقتصادية والمدنية، تطور المدن وازدهار التجارة والصناعة ولدول والثورات الاجتماعية والعلوم والمناهج. ويمكننا إجماع الموقف كله بالقول، إنه عصر الاكتشافات الفلكية والاكتشافات الجغرافية والإصلاح البروتستانتي وضروب الإبداعات الثقافية واختراع وانتشار الطباعة والسفينة البخارية والبارود، والبوصلة، وبروز الأمم الدول، على أسس قومية وبدايات الاقتصاد الرأسمالي وظهور المدن وبداية التمايز الاجتماعي والصراع الطبقي. لقد أطلقت النهضة طاقات الإنسان، وأفضى ذلك الاهتمام المتزايد بالحياة الإنسانية، وبالجسد الإنساني والطبيعة الحية، إلى رؤية جديدة لكل شيء، وبدلا عن المحنة حل الفرح، وباستعمال الإنسان للقوى التي وهبها إياه الله حلت الحرية في توجيه العقل بدلا من الخضوع لإرادة الكنيسة، وأخذ البحث الفكري يحل مكان التبلد والعقم والكسل- وبكلمة تفجرت من ذات الإنسان طاقاته الإنسانية الكامنة المتعطشة للحرية والإبداع والتنافس والصراع والمغامرة والطموح والبطولة والشجاعة والإيمان باللحظ واغتنام الفرص.
مشاركة :