من موائد شهر رمضان مائدة التقوى، وهي مائدة تسمح للعباد أن تتشرف بضيافة عالم المتقين للتعرف عليه وللتزود منه، الأمر الذي لا يمكن للعبد بعده من الاعتذار أو تقديمه لأنه لا يعلم أو أنه غير مدرك، فالتقوى أول الموائد الرمضانية وهي آخر الموائد التي تقدم قبل عيد الفطر، يتزود منها العبد المؤمن فتشرق نفسه صبيحة العيد بهيبة جلال التقوى والرغبة بالتمسك طاعة لله تعالى، الأكمل بعد جمال الإشراق أن المؤمن يستعيد كل ما فقده من قوة طيلة العام، ويتمكن من الاحتفاظ وتخزين الزاد دون ضرر وهي ميزة فقط لشهر الله تعالى، فلا يخفى على المؤمنين أن شهر رمضان هو زاد التقوى، وهو ضيف المتقين. يفتح الله لعباده مساحات ومواقف للتزود وهو ما اتفقنا عليه منذ البداية ومن خلال سلسلة المحاضرات المختصرة، ويجذر بي أن أبين مسألة مهمة وهي أن التقوى ليست منحصرة في الكبار بل هي منصوصة لاستثمارها في الشباب، فقد يتبادر للذهن أن التقوى مسألة متعلقة بالشيوخ وكبار السن، ولكن العرض القرآني للتقوى جاء في جل الآيات منصوصًا بفترة الشباب وعز العمر وزهرته، قوله تعالى في يحيى عليه السلام: (وآتيناه الحكم صبيا، وحنانا منا وزكاة وكان تقيا)، إذ لا عمرية في التقوى، ولا نسبية فيه بل هو أمر مطلوب على العبد واتجاه مرغوب منه، المفروض من كل العباد، وإن كانت التقوى مراتب ومراحل إلا أن أدنها مطلب، وأوسطها مقصد، وأعلاها نجاة في الدنيا والآخرة، فمن ضمن الأولى نجى في الدنيا، ومن ضمن الاثنتين نجى وجزي في الدنيا، ومن ضمن الثلاث نجى وجزي في الدنيا والآخرة، ودخل الجنة بلا حساب. كل من تدبر موارد التقوى في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، علم أنها سبب كل خير في الدنيا، فإذا قرأت كتاب ربك من أوله إلى آخره تجد التقوى رأس كل خير، ومفتاح كل خير، وسبب كل خير، وإنما تأتي المصائب والبلايا والمحن والعقوبات بسبب الإهمال أو الإخلال بالتقوى وإضاعتها، أو إضاعة جزء منها، فالتقوى هي سبب السعادة والنجاة، وتفريج الكروب، والعز والنصر، يقول الله تعالى: (ومن يتقى الله يجعل له مخرجا ويرزق من حيث لا يحتسب)، وتبقى الحاجة إلى التقوى مستمرة لدى العبد ما دام على قيد الحياة، وتبقى هي الزاد الحقيقي له في يوم الحساب، إذ هي من تنقذه وتخرجه من ضغطات القبر ابتداء إلى ظلماته، إلى تجاوز الصراط المستقيم، إلى دخوله الجنة بإذن الله. التقوى أرقى أنواع العبادة وهي أول مرحلة للإخبات لله كما يقول الله تعالى: (وبشر عبادي المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، فالمتقي يخبت لله، ففي قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة)، فمرحبًا بالمتقين.
مشاركة :