نعم. إنّها مسألة «الحق في النسيان» التي نوقشت ببطء وخفوت عند ظهور موقع «سناب تشات» Snapchat في 2011 الذي يعطي الأفراد الحق في محو الرسائل التي يتبادلونها، سواء أكانت تدوينات قصيرة أو صوراً أو أشرطة فيديو، بعد هنيهات من مطالعتها. منذ البداية، توضّح أن «سناب تشات» هو الحل لمعضلة البقاء السرمدي لكل ما يكتبه الناس على شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصاً «فايسبوك» و «تويتر». ثم تصاعد النقاش عن الحق في النسيان، بعد تفجّر فضيحة رقابة «وكالة الأمن القومي» على الاتصالات الإلكترونيّة كافة، خصوصاً الانترنت وشبكات الخليوي، التي فجّرتها وثائق للوكالة كشف عنها خبير المعلوماتيّة الأميركي إدوارد سنودن. وقبل أيام قليلة، عادت مسألة الحق في النسيان إلى الواجهة، مع ظهور ارقام تشير إلى تناقص مستمر (على رغم ضآلته نسبيّاً) في أعداد مستخدمي «فايسبوك»، مقابل تصاعد واضح في استخدام موقع «سناب شات»، الذي يتوافر أيضاً على هيئة تطبيق رقمي لأجهزة الخليوي والـ «تابلت» وغيرها، إضافة إلى كونه موقعاً إلكترونيّاً للتواصل الاجتماعي على الانترنت. وبيّنت الأرقام أيضاً زيادة الجمهور الأميركي لـ «سناب تشات» بقرابة 27 في المئة (بلغ جمهوره 59 مليوناً)، متفوّقاً للمرّة الأولى على «تويتر». وعلى رغم أنه يبقى بعيداً من نظام التراسل «ماسنجر» في «فايسبوك» (105.2 مليون مستخدم)، إلا أن «سناب تشات» نجح في تحقيق نسبة نمو تفوق تطبيق «واتس آب» الشهير، ما يعبّر عن تنامي الميل لتبني تطبيق يستند إلى أنّه يقدّم للجمهور الحق في النسيان. ماذا لو كنتَ من مؤيّدي إسامة بن لادن في مراهقتك، ثم غيّرت رأيك في جهاديّته وإسلامويّته؟ كيف تتصرّف السلطات في الأرض معك، إذا كان الـ «تايم لاين» Time Line على صفحتك في «فايسبوك» يرفض أن ينسى كلماتك (وربما صورك وأشرطتك) المؤيّدة لبن لادن؟ ربما بدت الأسئلة السابقة مجرد أسئلة خياليّة ووهمية، لكنها ربما تصبح حرّاقة في ظل الأبعاد التي حرّكتها نقاشات الخصوصيّة والحريّات الشخصيّة والحق في حماية بيانات الأفراد على الإنترنت وشبكات الخليوي. انتخابات وإرهاب وذاكرة الـ «سوشال ميديا» مع صعود موجته الانتخابيّة إلى ذروة جديدة عبر تحوّله مرشّحاً عن الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركيّة المقبلة، وجّه البليونير الأميركي دونالد ترامب بعضاً من نيران حملته إلى موقع «فايسبوك» للتواصل الاجتماعي. وسلّط أعوان ترامب لهيب انقاداتهم على مارك زوكربرغ، مؤسّس «فايسبوك»، جرياً على عادتهم في تحويل النقاشات العامة إلى «ردح» شخصيّ، يذكّر بحديث ترامب عن جسمه وطول يده وبقية أعضاء جسده، وتناوله زوجة مرشح جمهوري منافس، وتتفيه النقاش عن الإسلاموفوبيا في خطابه إلى سماح بزيارة عمدة لندن الباكستاني صادق خان وغيرها. في المقابل، اتّخذ زوكربرغ موقفاً رزيناً، وأصدر بياناً باسم إدارة «فايسبوك» دافع فيها عن الحياد السياسي لذلك الموقع الذي يعتبر ركناً مكيناً في التواصل الاجتماعي والـ «سوشال ميديا». ولأن كلمات متطايرة من حملة ترامب ركّزت على قسم الـ «الميول» («ترندينغ» Trending) الإخباري في «فايسبوك»، أوضح زوكربرغ أن ترتيب المواد في الـ «ترندينغ» يخضع لمعادلات رياضيّة (هي خوارزميّات Algorithms بلغة التقنية الرقمية)، ولا علاقة لها بميول الموقع الذي، وفق تشديد زوكربرغ، «يسعى إلى خدمة المجتمع ككل بوصفه منصّة للآراء كلّها... ولا يقدّم رأياً على آخر، بل يقدّم ما تظهره الأرقام بأنه رائج». نشرت مجلة «فوربس» Forbes الشهيرة محوراً واسعاً عن النقاش المندلع في دواخل إدارة «فايسبوك» وخارجها، حول تلك المسألة. وأشارت إلى أن حملة ترامب تعتبر «فايسبوك» منحازاً إلى الأفكار الليبراليّة من النوع الذي يمثّلها الحزب الديمقراطي وبعض معتدلي الحزب الجمهوري، ما يعني أنه ينحّي جانباً المواد الإعلاميّة التي تأتي من جانب ترامب وحملته. وأشارت «فوربس» المشهورة بعلاقاتها برجال المال والأعمال إلى أن للقصة جانباً آخر: مدى صدقية المواد التي تروج بين مستخدمي «فايسبوك»، وذلك أمر لا تستطيع الأرقام وحدها أن تظهره. وخلصت المجلة للقول إن إدارة «فايسبوك» تعاني بين نارّي الصدقية وأرقام الانتشار، ولا علاقة لذلك بالموقف من ترامب الذي كثيراً ما صدرت عن حملته قصص ومواد إعلامية لم تصمد أمام التدقيق. إشكاليّة الحياد الأرجح أن المرشح الجمهوري الناري الطبع، لم يتأنّ ما فيه الكفاية ليلاحظ أن حملته جاءت في وقت غير ملائم، أقلّه بالمقاييس الأميركيّة. فقبل الانتقادات التي وجّهها ترامب لـ «فايسبوك»، كان الموقع نفسه موضع نيران مختلفة من مؤيّدي «داعش» و «القاعدة» وغيرهما. لم يكن هذا شيئاً جديداً، لكنه تصاعد بحدّة بعد أن أثنى الرئيس باراك أوباما ومسؤولين في البنتاغون، على تعاون شبكات الـ «سوشال ميديا» ومواقع كـ«فايسبوك» و«تويتر»، في إزالة وحذف صفحات ومحتويّات «تحرّض على الكراهية والتطرّف»، ما يعني أيضاً أنها تعاملت إيجابيّاً مع بُعد آخر في مسألة الحق في النسيان. ومن دون نية استعادة النقاش المديد والمتشابك حول الانترنت وظاهرة الإرهاب الإسلاموي، إلا أنّ جانباً منه يتعلّق بردود شريحة رأت أن تجاوب الـ «سوشال ميديا» مع المطالبة بالحق في النسيان يهزّ حياد الانترنت من جهة، إضافة الى كونه يساهم بطريقة غير مباشرة في تغذية الإسلاموفوبيا على الانترنت أيضاً. ومن تلك الزاوية، يبدو ترامب و «داعش» كأنهما متلاقيان من دون موعد في معارضة تجاوب الـ «سوشال ميديا» مع المطالبة المتصاعدة بامتلاك الجمهور الحق في النسيان في ما يتعلّق ببياناته على شبكات التواصل الاجتماعي. واستطراداً، من الواضح أن ثمّة تداخلاً بين الحق في النسيان من جهة، ومسألة حياد شبكة الإنترنت من الجهة الثانية، ما سيثير نقاشات كثيرة.
مشاركة :