منذ مدة، تطلق الدبلوماسية الفرنسية مؤشرات متكررة إلى وجود مبادرة فرنسية لحل النزاع العربي- الإسرائيلي، الذي طال أمده في منطقة الشرق الأوسط، من دون وجود أفق منظور، لأي حل من أي نوع. في البداية كان الظن أن الكلام الفرنسي عن المبادرة، مجرد حركة دبلوماسية ما تلبث أن تختفي بالسرعة التي ظهرت فيها. لكن مع الإصرار الفرنسي، والتكرار والإلحاح، ما لبثت أن بدأت تتبلور في خطوات عملية، فيها حد أدنى من الجدية. بدليل أن إسرائيل التي لم تعر في البداية أي اهتمام بحديث المبادرة الفرنسية، أصبحت تعبر عن انزعاجها وقلقها، إلى درجة كادت تؤدي إلى نشوب أزمة دبلوماسية بين فرنسا وإسرائيل. إن علاقة أوروبا، بكل دولها، وخاصة الكبرى منها بالصراع العربي - الإسرائيلي، هي علاقة قديمة، بل تأسيسية، ذلك أن جذور وجود أزمة يهودية، هي في الأساس جذور أوروبية، تعود إلى قرون عديدة، عندما كانت الجاليات اليهودية تتمتع باستقرار تاريخي في شتى مراحل الدولة العربية، بما في ذلك الدولة العربية في الأندلس، حتى أن انهيار هذه الدولة أدى تاريخياً ليس فقط إلى هجرة الجاليات العربية نزولاً إلى أقطار المغرب العربي (المغرب، وتونس، والجزائر)، بل إلى هجرة موازية للجالية اليهودية التي اعتبرت انتصار الأوروبيين على الدولة العربية في الأندلس، هو إعلان مؤكد عن نهاية عصر البحبوحة الحضارية التي كانت تعيش فيها هذه الجالية اليهودية، في كنف الدولة العربية. بعد ذلك، اشتدت مظاهر التعامل الأوروبي العنصري مع الأقليات اليهودية، التي بقيت مستقرة في أوروبا، خاصة أوروبا الشرقية. من هذا الرحم التاريخي ولدت في الدوائر الاستعمارية الغربية أولاً، وقبل نشوء الحركة الصهيونية بقرون، فكرة تطهير أوروبا من اليهود، وتجميعهم في دولة على أرض فلسطين العربية، وذلك لإنجاز مهمتين استعماريتين أوروبيتين: 1- التخلص من كل يهود أوروبا إن أمكن. 2- وإيجاد حاجز طبيعي بين دول المغرب العربي والمشرق العربي، خاصة بعد التهديد الذي شعرت به أوروبا عند انتصار مشروع محمد علي بتوحيد مصر مع بلدان المشرق العربي، ووصول الزحف العربي إلى حدود عاصمة الإمبراطورية العثمانية. وكان القرن التاسع عشر الاستعماري بامتياز، هو ذروة نضج هذه الأفكار الاستعمارية، حتى ولادة الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر (1897)، فتحول المشروع من أفكار في وزارات الخارجية الأوروبية، إلى خطط عملية كانت فلسطين مركزاً لها (وعد بلفور صدر في عام 1917). ولما جاء موعد إنشاء دولة إسرائيل، بعد ثلاثة عقود من التمهيد الاستعماري البريطاني لذلك، على أرض فلسطين، اندفعت الدول الأوروبية، غربيها وشرقيها، إلى التحالف الشيطاني مع الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية، لسرقة حق تقرير المصير من عرب فلسطين، سكان البلاد الأصليين، واستبداله بقرار تقسيم فلسطين الذي كان أساس الصراع العربي الإسرائيلي، الناشب حتى يومنا هذا. ومنذ عام 1948، وحتى يومنا هذا، أثبت العالم الغربي (أوروبا والولايات المتحدة) أنه يتعامل بغيبة ضمير سياسي كاملة، مع المشروع الصهيوني، حتى بعد احتلاله بقية فلسطين في عام 1967، وطالما اعتبر الغرب الأوروبي والأمريكي (كان وما زال) أن الكيان الصهيوني الاغتصابي هو الأساس، أما ما نتج عن هذا المشروع من سرقة لفلسطين كلها، وتهجير لغالبية شعبها، وإخضاع عنصري لمن بقي منهم، فهي التفاصيل الصغيرة التي كانت ذروة التعامل الأوروبي معها، إنشاء وكالة غوث اللاجئين، التي تتقهقر أحوالها يوماً بعد يوم. إزاء هذا التاريخ الكامل من غيبة الضمير الأوروبي- الأمريكي، لا يجوز أبداً اعتبار خطوة عادية وشكلية كأنها تعبر عن صحوة مفاجئة للضمير الأوروبي ذلك أن المجتمع الغربي قد ارتكب مؤخراً ذروة جديدة في التمسك بعدوانية وعنصرية الكيان الصهيوني، بمكافأة إسرائيل برئاسة اللجنة الدولية لمراقبة تطبيق القانون الدولي. إن الكلام عن صحوة ضمير أوروبية أو أمريكية، لا يصح بمؤشرات تافهة مثل المبادرة الفرنسية، بل ببدء أوروبا وأمريكا باتخاذ خطوات جادة أولاً في مواجهة كل ما يمثله الاغتصاب الصهيوني لأرض فلسطين، من مخالفة لكل الشرائع القانونية التي أقرتها الأمم المتحدة، ويقرها قبل ذلك الضمير الإنساني. هذه ليست صحوة ضمير، إنها مجرد حنين إلى الماضي الاستعماري الفرنسي الذي انقضى زمانه، في محاولة يائسة للعب أي دور في أية مشكلة دولية، مهما كان صغيراً أو سطحياً.
مشاركة :