لندن: عبد اللطيف جابر قبل قرن من الزمن التقى عدد من الفنانين ممن يعيشون في العاصمة البريطانية وشكلوا تجمعا أصبح معروفا باسم «مجموعة لندن»، وهي جمعية فنية أرادت متسعا بعيدا عن الأجواء «الخانقة والمحافظة» التي كانت تعكسها المؤسسات الكبرى مثل «الأكاديمية الملكية للفنون». هذا المنتدى الفني ما زال قائما إلى يومنا هذا ويعتبر الأقدم ليس على صعيد بريطانيا وحدها، وإنما على مستوى العالم، وفي العام الماضي احتفلت المجموعة بمئويتها، على الرغم من أنها لا تتمتع بمكانة فنية كتلك التي تبوأتها في الماضي. في تلك الفترة، أي في عام 1913، عمل بعضهم من خلال مجموعات صغيرة كانت تطمح في خلق حركة فنية حرة دون قيود في أشكالها الفنية. وفي معرض تقديمه لمعرض «اهتياج» والفترة التي يغطيها قال ديفيد غلاسار رئيس غاليري بن يوري، المستضيف إن «مجموعة لندن» طفت على السطح في تلك الفترة «بديلا راديكاليا للمؤسسة الفنية»، خصوصا مع بروز مجموعات لندنية اعتبرت منابر للأشكال الفنية الحديثة التي بدأت تتأثر في الحركات الفنية الأوروبية ليس في أشكالها الفنية فقط، وإنما أيضا في تمردها على المؤسسات الفنية، ومن هذه «جمعية الفنانين المتحدين» التي أسسها فرانك باتلر، الناقد الفني في صحيفة «التايمز»، وجمعية «كامبدن تاون» التي أسسها الفنان والتر سيكيرت، إضافة إلى مجموعة «بلومزباري» الأدبية، التي كانت تضم عددا من النساء الفنانات وهذه تركت بصماتها على المجموعة، خصوصا ما بعد الحرب العالمية الأولى في عشرينات القرن الماضي. التأثير الآخر الذي أضاف قيمة فنية على المجموعة وزاد من تنوع أساليبها وأشكالها الفنية هو المهاجرون من الفنانين اليهود من كلا الجنسين ممن استقروا في المناطق العمالية في شرق لندن. ومن هؤلاء ديفيد بومبيرغ وجيكوب ايبستاين ومارك غيتلر وجيكوب كريمر، وكان يسكن هؤلاء في تلك الفترة في الغيتو اليهودي في شرق لندن وعرفوا باسم «أولاد وايتتشابل»، وهي منطقة في شرق لندن. الحداثة، أو حتى ما بعدها كما بدأ يصفه البعض، أصبحت «التيمة» الرئيسية التي تعكس وتمثل توجهات المجموعة في أعمالها، وهذا بسبب تأثرها في المدارس الفنية الأوروبية، مثل التكعيبية، والتي لعب بيكاسو فيها دورا أساسيا. «العودة إلى الخنادق» (1915) للفنان سي. آر. دبليو نيفيسون، هو أحد الأعمال التي تدخل في لب الموضوع هنا وتمثل هذه الطفرة الفنية في تلك الحقبة، إذ يقدم فيه الفنان مجموعة من الجنود بطريقة «ميكانيكية خالية من الإنسانية». هذا العمل إضافة إلى أعمال أخرى تحدت في تلك الفترة «الإدراك الحسي» للمشاهد، مثل بعض المنحوتات للفنان جيكوب إيبيستاين (طائر يبتلع سمكة) وهنري غوديير بريزيسكا، النحات الفرنسي الذي عاش في لندن في تلك الفترة وأصبح جزءا من المجموعة، أثارت حفيظة النقاد في تلك الفترة. وتناولت الصحافة معرض 1915 و«العودة إلى الخنادق» بإسهاب. وقال أحد النقاد معترضا: «إن الميول الجمالية لأكثر مدارس الفن الحديث بدأت تعيدنا إلى الغرائز البدائية الوحشية». هذه المجموعة ومدرسة الفن الحديث، والأعمال المعروضة التي ابتعدت عن المألوف مثل «خلق حواء» و«العودة إلى الخنادق»، خصوصا في أجواء حمى الحرب، نظر إليها على أنها تخريبية ولا تعكس الولاء الوطني لهؤلاء الفنانين. ووصفت الأعمال بأنها «غير لائقة». أحد زائري المعرض أعطى لنفسه الحق بأن يعلق لافتة في الداخل تقول: «صنع في ألمانيا»، أي أن هؤلاء الفنانين هم نتاج الماكينة الحربية الألمانية المعادية لبريطانيا. لكن في عام 1916 عندما نظمت المجموعة معرضها الرابع في يونيو (حزيران) قررت الجمعية الإدارية أن تمارس الرقابة على نفسها حتى لا تثير غضب الناس والصحافة، وقررت رفض لوحة «عارية في شارع فيتسروي» (1916) للفنان ماثيو سميث، التي اعتبرت مثيرة للشعور. ومعرضها الخامس في نوفمبر (تشرين الثاني) 1916 تضمن لوحة للفنان تشارلز جيننر لمستشفى عسكري «روبرتس»، التي رسمها دون إذن وقبل انتدابه ليكون فنان الحرب الرسمي عام 1917. المعرض الحالي، «اهتياج» يتناول 50 عاما من تاريخ المجموعة الفنية (1913 - 1963) بخمسين عملا فنيا، تعكس هذا التنوع والتمرد في الأشكال الفنية في تلك الفترة، وتعبر عن حالة في غاية من الاضطراب من تاريخ بريطانيا بشكل خاص، وأوروبا والعالم بشكل عام، وتغطي فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى بقليل وسنوات ما بين الحربين. الغريب أن غاليري بن يوري قرر عرض أعمال تمثل مسيرة هؤلاء المشاهير خلال الخمسين سنة الأولى من مسيرتهم، ولم يحتفل بمئوية تشكيل المجموعة. اختار الفترة التي شكلت جدالا وخلافا في الحركات الفنية الأوروبية وفي بريطانيا بسبب الحربين. وقال أحد النقاد إن «ما بين الحربين شكلت نقطة بداية مهمة للفنانين الشباب مثل هنري مور وباربرا هيبوورث (أشهر نحاتي بريطانيا)، لكن بعد الحرب العالمية الثانية تدهور وضع المجموعة وتفسخت، وبعد تنظيم معرضها المفتوح عام 1995 لم تنظم معرضا آخر لمدة 12 عاما. أما الآن فإنها أصبحت مجرد تعاونية (كما تصف نفسها) دون توجه أو هدف أو حتى قاعدة ثابتة». اختيار كلمة «اهتياج» عنوانا لهذا التجمع من الأعمال الفنية جاء ليعكس الحالة التي سببها المعرض الثالث للمجموعة الذي نظم عام 1915 والذي عرض فيه مارك غيتلر، أحد الأعضاء المؤسسين، منحوتة «خلق حواء». حتى استضافة غاليري «بن يوري» الكائن في شمال غرب لندن، وهو أقدم فضاء فني يهودي في بريطانيا، فإنها تعكس الفكرة الرئيسة من المعرض، أي حالة التمرد والجدال في الحركة الفنية، التي لم ترفض فقط الأنماط والقوالب التي مثلتها المؤسسات الكبرى مثل الأكاديمية الملكية، لكنها أرادت أيضا أن تكون رحبة في استقبالها ودعمها الوجوه الجديدة من الفنانين، خصوصا من اليهود الذين قدموا إلى لندن في تلك الفترة من دول أوروبا الشرقية. غاليري «بن يوري» الذي أسس عام 1915 ويحتفل بمئويته هو الآخر بعد عام، يتخذ من شارع فرعي في منطقة «سانت جونز وود» مقرا له. ويتوقع الزائر أن عرض أعمال لـ50 فنانا من أشهر الفنانين ممن عاشوا في لندن وكانوا أعضاء في المجموعة يستحق رواقا ضخما مثل المتاحف والبنايات الكائنة في وسط لندن مثل الأكاديمية الملكية أو متحف التيت أو المتحف الوطني، لتعكس مكانة هؤلاء الفنية. لكن الأعمال الفنية لكبار هؤلاء الفنانين والتي يملكها جامعو الأعمال الفنية حول العالم ومتاحف خاصة وعامة مختلفة قرروا إعارتها إلى هذا الغاليري البسيط المتواضع. دخولك إلى المكان، مجانا، يتم بإذن من عاملة واحدة تجلس خلف طاولة وتضغط على زر لتفتح لك الباب. تتجول في مكان جدرانه لا تختلف عن جدران أي بيت بسيط، والمكان خال من الحراس أو أشخاص يلاحقونك بأعينهم خوفا من سرقة الأعمال الفنية. وخلال تنقلك بين اللوحات التي يمكنك أن تقترب منها وتعاينها بحرية ودون قيود قد تقوم بنفسك بفتح الباب للآخرين من الزائرين في حالة انشغال الموظفة وابتعادها عن طاولتها. هذا الجو المريح الذي لا تشوبه أي قيود قد يعطي الزائر شعورا أنه يتجول في غاليري يعرض مجموعة أعمال لفنانين مغمورين. لكن العكس هو الصحيح. أعمال هؤلاء الفنانين التي تقتنيها كبار المتاحف والأروقة وتباع بمئات الآلاف من الدولارات تشكل نقطة وصل بينهم وبين الجيل الجديد من الفنانين المعاصرين واستمرارية تاريخية للتطور الفني البريطاني. المعرض مستمر حتى الثاني من مارس (آذار) المقبل.
مشاركة :