الحجاز بيئة حضرية منذ القدم، لكنها استوعبت الأعراب والحضر، استوعبت مختلف الثقافات والأعراق والأنماط الثقافية سأتجاوز جزئية التعريف بمسلسل "حارة الشيخ" إلى الحديث عن نقاط أخرى، لكن أولا -وهذا رأيي كمشاهد لا أكثر- المسلسل مليء بالأخطاء الفنية، فمن المضحك مثلا أن فتوات الحارة وأقوى رجالها كلهم فوق الستين، والمضحك أكثر حين يتساقطون كالوزغ من ضربة شون خفيفة! أما عن لعب المزمار في المسلسل فما يحدث لا علاقة له من قريب أو بعيد بالمزمار، وأنا على ثقة بأن المختصين في النقد الفني سيتحفوننا في الغد بالمزيد والمزيد من الأخطاء، لكن رغم كل الأخطاء يبقى المسلسل جميلا وأفضل بمراحل من مسلسلات الطلاق والخيانة والعشق الممنوع. وبعيدا عن "حارة الشيخ" الحقيقة، هنالك مسلسل آخر يتم عرضه على مواقع التواصل كردة فعل على "حارة الشيخ"، مسلسل عنوانه "هوية الحجاز" بعض المشاركين في هذا المسلسل الافتراضي يزعم أن أهل الحجاز الأصليين من أبناء القبائل، وبعضهم يزعم أنهم من الوافدين، بعضهم يزعم أن لباس أهل الحجاز الأصلي هو الغترة ليرد الآخرون: بل إن اللباس المعتمد كان العِّمة، وقائل إن "الثلاثة" تنطق في الحجاز بالثاء وليس بالتاء، وإن الحديث على وزن "إشكلو يا واد قوام أهرج" ليس إلا نتيجة مؤامرة كونية على لهجة أهل الحجاز الأصلية. الحجاز بيئة حضرية منذ القدم، لكنها استوعبت الأعراب والحضر، استوعبت العرب العاربة والمستعربة، استوعبت مختلف الثقافات والأعراق والألوان والأنماط الثقافية. هوية الحجاز لا ملامح محددة لها، إنها بيئة للناس كافة بكل اختلافاتهم ومذاهبهم. هوية بدأت بالأمر الرباني لسيدنا إبراهيم -عليه السلام- "وأذّن في الناس..." في الناس كافة لا في الأعراب وحدهم ولا العرب أو المستعربة، لا في أبناء الحضر دون أبناء البادية، لا في السمر أو البيض، الحجاز للكل بلا استثناء، هذه هي هوية الحجاز، هوية غنية متنوعة ثرية، وسبب ثرائها أنها للناس أجمعين ولا مكان فيها للعنصرية. لكن هنالك من لا يستوعب كيف تتنوع وتتعدد الثقافات في منطقة جغرافية محددة، هنالك من يملك عقلا لا يعمل إلا في اتجاه واحد. يريد شيئا واضحا محددا يمكن وصفه بعبارات موجزة، لقد عُد للنبي -عليه الصلاة والسلام- 26 نوعا من اللباس ارتداها طوال حياته، وتحدث بلهجات مختلفة، ومنذ القدم لم يكن مجتمع الحجاز مجتمعا عربيا خالصا، بل كان مجتمعا يتعامل مع "سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي" على أنهم من أبنائه، هذا هو التنوع في هوية الحجاز، لا لبس محددا، لا لهجة محددة، لا لون أو ملامح ثقافية محددة إنما هوية متشعبة ثرية. ومدينة جدة هي رقم ثابت في معادلة الحجاز، مدينة بلا ملامح ثقافية ثابتة أو محددة منذ القدم وحتى اليوم. طبيعة حياة اليوم في شرقها لا تشبه الجنوب، وشمالها يختلف عن الغرب، أما في الأمس، فلكل حارة من حاراتها طعم ولون مختلف، ولا صفة تجمع كل هذا التنوع إلا أنها مدينة تستوعب الجميع، ومدينة بهذا التنوع من الصعب حشرها في مسلسل، بل من الغباء القول إن "حارة الشيخ" تمثل جدة فعلا أو حتى حارة من حاراتها، فالعمدة كمثال كانت له هيبة ومكانة وليس "مرمطون" لا يهش ولا ينش، والفتوة "المشكل" كان ضابط الحارة وليس عربيدها. لكن، ورغم هذا اللغط التاريخي الفاضح، إلا أن المسلسل ليس توثيقا للوقائع كما هي، بل هو قصة درامية متخيلة بالكامل، ومن الخطأ أن تتخذ مرجعا لتحديد هوية الحجاز. أما الخطأ الأكبر، هو أن يتم تحديد الهوية الحجازية على وزن البيت "وكل يدعي وصلاً بليلى".. قبائل تدعي أنها أصل الحجاز، وحضر يزعمون أنهم أصل الحجاز، والحجاز لا تقر لهم بهذا أو بذاك. إنها منطقة أكبر من قبيلتك وعائلتك ولهجتك ولبسك، وأكبر من كل ادعاءات العنصرية.
مشاركة :