لمحات رمضانية من العصور الوسطى

  • 6/25/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

اقترن شهر رمضان في مجتمعات العصور الوسطى الإسلامية بكثير من مظاهر الاحتفاء والاحتفال التي تشابهت إلى حد كبير، مع ما يحدث حتى الآن، بخاصة أن بعضها مرتبط بالصيام كفريضة قائمة على مجموعة من الأركان، منها رؤية الهلال والسحور والفطور وصلاة التراويح وإحياء ليلة القدر والحياة في شوارع المدن وأسواقها ليلاً والتحضر للعيد وما سوى ذلك. وعلى رغم اتفاق المسلمين على ذلك فإنهم اختلفوا إلى حد ما في طريقة احتفالهم بشهر رمضان. وكان يُرتب لرؤية الهلال قبلها بأسبوعين، وجرت عادة نساء مصر أن يخرجن إلى الشوارع واكتراء دواب النقل أو الترتيب للأماكن التي سيرون من خلالها موكب المحتسب في طريقه لرؤية الهلال، ويشارك فيه المحتسب والجند والشرطة وغيرهم من الموسرين والحرفيين، وحينما يتثبت القاضي من الهلال فإنه يخبر المحتسب ومن معه من كبار رجال الجيش والإدارة وحينها يشقون القاهرة في احتفال مهيب وقد يبقى الناس نساء ورجالاً لفرحتهم خارج بيوتهم ربما حتى الفجر. وتعرض ابن جبير حينما وصل إلى مكة في ربيع عام 579هـ/1183م إلى الجو الروحاني الذي يحيط باحتفالات رمضان، حيث يأمر أمير مكة بضرب الدبدبة كناية عن بداية الصيام، ويقترن ذلك بتجديد حصر المسجد الحرام وزيادة مشاعله. وقد لاحظ ابن جبير أن رواد الحرم المكي لا يجتمعون في صلاة التراويح على إمام واحد، فالشافعية في ناحية والحنابلة في أخرى والأحناف في ثالثة والمالكية في رابعة والشيعة الزيدية في خامسة... الخ. وأثنى ابن جبير على تميز المالكية بتناوب ثلاثة أئمة في صلاة التراويح وعلى حرصهم على التفنن والتميز لجذب انتباه رواد الحرم إليهم من خلال إضاءة موضع صلاتهم، وأشار أيضاً إلى أن الطبول كانت تضرب ثلاث مرات بعد أذان المغرب وعند انقضاء صلاة العشاء وثالثة عند منتصف الليل. ورصد ظاهرة تسابق الناس وخصوصاً المجاورين على العبادة في العشر الأواخر من رمضان مرضاة لله وتحرياً لليلة القدر. وحرص المدجن عبد الله الصباح الذي زار القدس في نهاية ق8هـ على التجول في نواحي بيت المقدس وما حولها والعودة إلى القدس في رمضان ليعيش ذلك المشهد الجليل على ما جاء في قوله: «...سحت في جبال البيت المقدس أربعة أعوام ونعود إليه في كل رمضان، نصوم فيه مع أهل مصر وأهل دمشق وأهل العراق وأهل بلاد الفرس وأهل بلاد الشمال...»، وقد أشار إلى مظاهر الاحتفال في القدس بفتح أبواب الحرم أمام المجاورين بداية من النصف من منتصف رمضان فيدخلون بأولادهم ونسائهم ويصومون فيه بقية رمضان. ولفتت انتباه ابن الصباح ظاهرة مهمة تتمثل في أن من يعجز عن الحج إلى مكة فإنه كان يتوجه إلى بيت المقدس فيصوم رمضان به ويجاور حتى وقفة عرفات حيث يجتمع سكان بيت المقدس مع المجاورين ويقفون عند قبة الصخرة ويجعلونها بين أيديهم متوجهين إلى الكعبة ويبتهلون بالدعاء مثل أهل عرفة “... وقد قالت جماعة من أهل علماء الشام وعلماء بيت المقدس إنه حج الضعفاء والمساكين الذين لا يستطيعون الزاد والراحلة والطريق السابلة”. كما وصف بعض الرحالة الأوروبيين في العصور الوسطى صيام المسلمين واحتفالاتهم بشهر رمضان. وأكد الرحالة الذين زاروا مصر في تلك الحقبة ما أقره ابن بطوطة وبخاصة انبهارهم بأضواء القاهرة - وغيرها من مدن مصر والعالم الإسلامي - بحيث تكاد شوارعها تشع نوراً لكثرة المشاعل والشموع المضاءة بأيدي المارة في الطرقات والأسواق. ولاحظ بعض الرحالة بقاء مطاعم القاهرة مفتوحة أمام روادها طوال الليل. وازدهرت أسواق القاهرة والأقاليم احتفالاً، وتفنن الباعة في توظيف ازدحام الناس في الشوارع لعرض بضائعهم عليهم. وارتبط بعض الأسواق بشهر رمضان تحديداً ومنها سوق الحلاويين، حيث تمتلئ الأسواق بكل صنوف التماثيل السكرية التي تصنع على هيئة صور الحيوانات كالقطط والسباع وما إلى ذلك. وارتبطت أسواق الشماعين بدورها بشهر رمضان لأن الحوانيت تفتح أبوابها حتى منتصف الليل متلألئة بأضواء الشموع المختلفة، خصوصاً التي تستخدم في المواكب على عجلات وقد أحاط بها الأطفال وأمسك كل منهم بفانوسه وهم يهزجون بأغنيات دينية جميلة، ويطوف الموكب المُضيء دروب القاهرة وأزقتها من بعد صلاة المغرب حتى موعد صلاة العشاء والتراويح. وكانت المساجد تزين في قوص – في صعيد مصر - وقراها وتضاء مشاعل المسجد الكبير وشموعه، وتعم الفرحة بين الناس ويترددون على المساجد للصلاة والتعبد، وتقام الموائد والولائم وقت الفطور سواء أمام المساجد أم دور الأثرياء لإفطار الفقراء والمعوزين وعابري السبيل. ولا شك أن قوص حظيت بنشاط روحي ذاع صيته في شهر رمضان، خصوصاً في العشر الأواخر نظراً لاستضافتها المعتمرين والحجاج في عبورهم إلى مكة، وكان هؤلاء يعقدون حلقات الوعظ والدرس في الزوايا والربط والمدارس حيث يلتف الطلبة وأبناء قوص حولهم. وشهدت ليالي رمضان في قوص أيضاً اجتماع الفقراء والصوفية في الربط والزوايا مثل رباط الشيخ أبي الحسن الصباغ القوصي وأبي العباس الملثم وعبد الغفار بن نوح الأقصري وزاوية ابن الأفرم، يؤدون أذكارهم فيعقدون حلقات للتلاوة والإنشاد حتى مطلع الفجر. وارتبطت مهنة المسحراتي بشهر رمضان ومهمته تنبيه النيام كي يستيقظوا لتناول السحور، وقد أشار ابن جبير إلى قيام المؤذن بتلك المهمة في مكة، حيث يصعد مئذنة الركن الشرقي من المسجد الحرام لقربها من دار الأمير، وحينما يحل وقت السحور فإنه يرفع صوته بالأذكار حتى يستيقظ الناس. أما في القاهرة وبقية المدن المصرية فيطوف المسحراتي بطبلته مردداً أهازيجه وأغنياته والأطفال يحيطون به، مُنادياً أصحاب البيوت. بينما كانوا يدقون الأبواب في الإسكندرية داعين الناس للسحور، ولفتت الرحالة فيلكس فابري تلك الظاهرة: «وفي المدن يسعى رجال دينهم في الشوارع قبل ساعتين من الفجر ويضربون بقطع من الخشب بعضها ببعض، ويوقظون الناس حتى يأكلوا...». واعتاد بعض أمراء بلاد الشام وبخاصة أمراء بني مرداس وبني منقذ وبني عمار وغيرهم خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين التوجه إلى الأماكن المعتدلة صيفاً لقضاء رمضان بها أو تمضية الوقت في الصيد وتلاوة القرآن، واعتاد بعض سلاطين المماليك قضاء رمضان في الأماكن الرطبة مثل الجيزة على ما حدث في سنتي 712هـ/1312م، 713هـ/1313م عندما زار السلطان محمد الأهرام وتنزه حولها وصام معظم رمضان هناك وعاد إلى القلعة قبيل العيد بأيام.

مشاركة :