خلال النصــف الثانـــي من القرن التاسع عشر، كان موتسارت قد صار، بالنسبة الى مؤلفي الأوـــبرا في أوروبا الغربية، حاجزاً يجب تجاوزه... او حتى اباً يتعين التخلص منه. ذلك انه كان هو المرجع والمـــصب، ليس بالنسبة الى الموسيقيين وحدهم، بل بالنـــسبة الى الجمهور ايضاً. وإذا كان مؤلفون، مثـــل فاغنر وفيردي، قد نجحوا في امتحانهم الصعب هـــذا، من طريق الانحراف بعيداً جداً عن أساليب عبقــري سالزبرغ، فإن آخرين، وفي بعض أعمالهم علـــى الأقل، فضّلوا ان يكون التجاوز والاختلاف، مـــن داخـــل التفاعل مع المتن الموتسارتي نفسه. ومـــن هؤلاء كان ريتشارد شتراوس، على الأقل في واحـــدة من اوبراته الكبرى «فارس الوردة». فهو حين قـــرر عند بدايات القرن العشرين ان يقدم عملاً أوبرالياً جديداً ومعاصراً، رأى ان أفضل سبيل الى ذلك ان يزاوج بين مدرسة الفودفيل التي كانت سائدة في فيينا في ذلك الحين، وبين تراث صاحب «زواج فيغارو». > ومع هذا نعرف ان شتراوس، على رغم اسمه الذي قد يوحي بقرابة ما بينه وبين آل شتراوس من أهل فيينا، أصحاب الفالسات النمسوية الشهيرة، لم يكن لا من أسرتهم ولا من وطنهم. كان ألمانياً من بافاريا، حتى وإن كانت أوبرا «فارس الوردة» بالتحديد خدعت كثراً من ناحية انتمائها القومي، خصوصاً ان هذه الأوبرا لُحنت انطلاقاً من نص كتبه هوغو فون هوفمنشتال، أحد أبرز الكتاب المسرحيين ايام «فيينا الكابوس السعيد»، كما كان يقال كتعبير مجازي عن الحقبة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، الحقبة التي كانت فيينا تموت فيها ومعها عالم إبداعي متكامل. * مهما يكن من أمر، فإن المتفرج على أوبرا «فارس الوردة» بالكاد يخمن انها من كتابة هوفمنشتال، بل ستبدو له شبيهة بالأوبرات الايطالية الخفيفة، نصاً وليس من ناحية موسيقاها على الأقل. من ناحية الموسيقى تنتمي «فارس الوردة» كلياً، الى عوالم ريتشارد شتراوس، حتى من دون ان تحدث أي تجديد في بنية تلك العوالم: موسيقى من دون مفاجآت، توزيع يذكّر الى حد كبير بموتسارت، تركيز على الغناء الفردي، وكلاسيكية في الاداء الثنائي او الثلاثي. ومع هذا يمكن لمن يدقق أكثر ان يعثر على لحظات طليعية حقيقية، من ناحية استخدام الآلات، تكاد تكون تمهيداً للتجديد الذي عرفته فيينا في ذلك الحين. لكن هذا في الواقع لم يكن جديداً، اذ ان مثل ذلك التجديد يمكن المرء ان يرصده في اوبرات تاريخية لشتراوس نفسه، تبدو في شكلها الظاهر، على الأقل، أكثر تاريخية مثل «سالومي» و «اليكترا». ومن هنا ما قاله النقاد دائماً من ان سر نجاح «فارس الوردة» - الذي يتخطى سذاجة موضوعها - يكمن في ان شتراوس يمكن ان يجعل من موسيقى هذا العمل «توليفاً بين الحنين الى القرن الثامن عشر، والنفس الموتسارتي الواضح، والطبيعة الغنائية النقية التي عُهدت لدى شتراوس، مع اطلالة مبكرة على موسيقى القرن العشرين التي كانت تعيش اولى ارهاصاتها ذلك الزمن». > اما الموضوع فيقلّ عن ذلك شأناً بكثير: يتحلق الموضوع من حول شخصية فارس الوردة، وهو كان في تلك الازمان رسولاً يكلف من جانب من يرغب في خطبة فتاة ما من النبلاء أو كبار المجتمع، بأن يحمل وردة فضية يتوجه بها الى بيت الحسناء المرغوبة، لكي ينقل اليها على ذلك النحو الأنيق رغبة طالب الزواج في الاقتران بها. وعلى هذا النحو تبدأ هذه الأوبرا بالبارون أوخس، اذ يزور الماريشالة، اميرة واردنبرغ، بهدف ان تجد له شاباً من علية القوم يتولى القيام بمهمة فارس الوردة له، هو الذي يود خطبة الحسناء صوفيا من أل فانينال. والذي يحدث انه حين يدخل البارون أوخس على الأميرة، يكون في رفقتها عشيقها الشاب الكونت اوكتافيان، المتنكر في ثياب انثى، لئلا يتنبه احد الى وجوده الى جانب الأميرة. وإذ يبدأ البارون من فوره في مغازلة هذه «الوصيفة» من دون ان يدري انها الكونت اوكتافيان، تقترح عليه الأميرة ان يقوم بالمهمة «شقيق الوصيفة»، أي الكونت اوكتافيان نفسه، من دون تنكر في زي امرأة هذه المرة. وهكذا ما إن يخرج البارون سعيداً بما أنجز، حتى يستعيد الكونت الشاب ثيابه كرجل... وهنا اذ تتأمله الأميرة، تشعر بشيء من الضيق اذ تتنبه أنه، على رغم الغرام المعلن بينهما، سيفرّ من بين يديها ذات يوم، اذ يعثر على برّ أمان غرامي جديد له... في صورة حسناء سيغرم بها. > المهم ان الأميرة سرعان ما تضع همومها الشخصية جانباً وترسل الكونت اوكتافيان لأداء المهمة الاجتماعية. اما هذا فإنه ما إن يصل الى دارة صوفيا حاملاً الوردة الفضية، حتى يقع في غرامها من فوره... وكذلك تبادله هي الغرام من أول نظرة... وتكون النتيجة أن يتجاهل المهمة تماماً، ويبوح للحسناء بحبه... غير متنبه الى ان البارون كان قد أرسل وراءه اثنين من رجال حرسه الشرقيين ليرصدوا خطواته. وهذان ما ان يلاحظا ما استجد من بوح وهيام بين صوفيا وأوكتافيان، حتى يصرخا منبهين البارون الى ما يحصل. فيهرع هذا الى المكان ليشتبك من فوره في مبارزة مع الكونت الشاب يصاب بجراح خلالها. وهنا يعلو الضجيج والصراخ من جديد... > بيد ان البارون سرعان ما يستعيد أنفاسه وهدوءه وثقته بنفسه، اذ تصله بواسطة أحد جواسيسه رسالة من «وصيفة الأميرة» - أي من الكونت اوكتافيان وقد استعاد تنكره في زي امرأة -، تطلب اليه فيها موافاته لموعد غرامي. أمام هذا التطور الجديد، لا يعود البارون عابئاً بخطيبته ولا بالفارس الشاب ولا بالوردة، بل يهرع الى مكان اللقاء ممنياً النفس بساعات حب حقيقي وقد خيّل اليه طبعاً، ان «الوصيفة» هائمة في غرامه. > وهنا نصل الى الفصل الثالث حيث يطالعنا، أول ما يطالعنا، الكونت اوكتافيان المتنكر في زي الوصيفة، وهو يقوم بآخر التحضيرات في صالون اللقاء الغرامي المنتظر، للفخ الذي ينصبه للبارون الأحمق، وقد آلى على نفسه هذه المرة ان يكشفه ويكشف دناءته امام صوفيا، مقنعاً اياها بأنه - أي البارون - انما يريد ثروتها لا أكثر... وبالفعل ما إن تمر ثوان حتى يدخل المكان عدد من الأشخاص المتنكرين والمقنّعـــين الذين يؤدون على خير ما يرام المهمة التي كُلفوا بها، وهي الآن تخويف البارون أوخس ودفعه الى الهرب. وكذلك يصل في الوقت نفسه ولكن بناءً على دعوة البارون هذه المرة ضابط شرطة، يتبعه آل فانينال (أسرة صوفيا)، ثم الأميرة (الماريشالة). > وإذ تدور تفاصيل المشهد الاخير تماماً كما خطّط لها اوكتافيان، تدرك الاميرة حقيقة ما يحدث، وتقرر ان تضع حداً لذلك كله... ولكن ليس على حساب العاشقين، حتى وإن كان ذلك سيجرح فؤادها. وهكذا تأمر كل الحاضرين بالخروج من الصالون، مبقية على صوفيا والكونت اوكتافيان، ثم تأخذ يد كل من هذين شابكة اياهما بعضهما ببعض طالبة اليهما ان يحبا بعضهما بعضاً... ثم من دون ان يفارقها حزنها، تبدو وقد استسلمت نهائياً للواقع ولمصيرها. > مبدئياً تعتبر «فارس الوردة» اوبرا كوميدية، غير ان خاتمتها وموقف الاميرة فيها اعطياها طابعاً تعبيرياً لا يخلو من كآبة. والحال انه لم يكن في وسع ريتشارد شتراوس (1864-1949) ان يكتب موسيقى كوميدية خالصة، في زمن كان القلق فيه سيد الموقف. وشتراوس كان نقيضاً على اي حال لفاغنر، انتقده كثيراً وأخذ عليه «مغالاته الميلودرامية» و «الابتعاد عن العصر». ومنذ بدايات انتاجه اتجه شتراوس ناحية ما كان يسمى حينها «القصيدة السيمفونية ذات البرنامج»، وهكذا وضع «دون جوان» ثم «هكذا تكلم زرادشت» (عن نص نيتشه)، ثم كتب اوبرا «سالومي» القاسية، ليذهب ابعد في عمله التالي «اليكترا»... اما في «فارس الوردة» و «أريان في ناكوس» فسلك درباً جديدة هو الذي كان اعلن مسبقاً انه انما يريد من الأوبرا ان تخوض عالم الهذيان والعبث!
مشاركة :