بعد أربعين عاماً تقريباً من انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي في 1973، صوّت الناخبون البريطانيون على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وذلك في استفتاء تاريخي ستكون له تبعات كبيرة ليس على بريطانيا فحسب بل على أوروبا وربما العالم أجمع. بداية لا بد من الإشارة إلى أنه نتيجة الاستفتاء تشكل رد اعتبار لرئيسة الوزراء البريطانية الراحلة، مارجريت تاتشر، المرأة الحديدية التي أعادت هيكلة بريطانيا سياسياً واقتصادياً قبل أن ينقلب عليها أعضاء حزبها على خلاف حول الاتحاد الأوروبي تحديداً. ولو كانت المرأة الحديدية على قيد الحياة اليوم لأشارت بأصابع السخرية لمن انقلب عليها حينها إذ صوت البريطانيون بالأمس على صحة موقفها من الاتحاد الأوروبي، وإن كان ليس إلى حد الخروج منه. إن الموضوع الأهم الذي رجح كفة الراغبين بالخروج هو موضوع الهجرة. إذ يرى عدد كبير من البريطانيين أن قوانين الاتحاد الأوروبي هي التي تسببت فيما وصلوا اليه من تدفق مبالغ فيه للمهاجرين من أوروبا الأمر الذي أثر سلبا في مستوى المعيشة في بريطانيا، وشكل ضغطاً على المرافق والخدمات العامة كالتعليم والصحة، فضلاً عن استحواذهم على مناصب وفرص عمل يعتبرها البريطانيون حقاً لهم. ومع أن هناك أموراً أخرى شكلت مزاج الناخب البريطاني بالخروج مثل المبالغ الطائلة التي تسددها بريطانيا للاتحاد الأوروبي دون أن يكون لها مردود مباشر على الداخل البريطاني، وسيطرة أوروبا القارية على قرارات الاتحاد الأوروبي من خلال الاتحاد النقدي الذي لم تنضم إليه بريطانيا، إلا أن ملف الهجرة كان الملف الرئيسي والحاسم في تشكيل قرار الناخب البريطاني؛ إذ تغلب الخوف من الهجرة على الخوف من المشاكل الاقتصادية المتوقعة حال الخروج. أما ما أثر في نتيجة التصويت فهي المناطق المهمشة والعاطلة عن العمل، وذلك على خلاف لندن مثلاً التي صوتت بكثافة على البقاء. وكذلك الناخبون الأكبر سناً وهم كثر في بريطانيا؛ إذ يريد هؤلاء صناعة عالم يشبه عالمهم القديم، حيث كانت بريطانيا هي المحور السياسي والاقتصادي. إذ إن نسبة من صوت من الناخبين الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة لصالح الخروج كانت 58% أما الشباب فقد صوت 3 من كل 4 منهم لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. والآن ما هي النتائج التي ستترتب على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ إن هذه أول حالة خروج يشهدها الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه، والخروج لن يكون سهلاً ولا آنياً، بل إن إجراءات الخروج قد تستغرق عامين على الأقل؛ إذ إن على بريطانيا أن تعيد صياغة علاقات اقتصادية وقانونية استغرق تشكيلها أربعين عاماً. بل إن بعضاً يرى أن على بريطانيا أن تتريث ولا تنهي إجراءات الخروج قبل عام 2020. ويقع القرار الآن على رئيس الوزراء البريطاني المقبل بعد استقالة كاميرون في تفعيل البند (50) من اتفاقية لشبونة والتي تعطي بريطانيا حق التفاوض على إجراءات خروجها خلال سنتين. وفي حال تفعيل بريطانيا لهذا البند من الاتفاقية، فإنها لن تستطيع العودة إلى الاتحاد الأوروبي مرة أخرى إلا بموافقة جميع الأعضاء الآخرين. إلا أن بريطانيا قد تلجأ إلى اتخاذ إجراءات فورية حتى قبيل خروجها، مثل الحد من صلاحية المحكمة الأوروبية، وحرية التنقل الأمر الذي يشكل مخالفة جوهرية لالتزامات بريطانيا بموجب الاتفاقية. كما يجب على بريطانيا قبل الخروج من الاتحاد الأوروبي، الاتفاق على شروط التجارة وانتقال رؤوس الأموال والأفراد. ومن المتوقع أن تستمر تبعات هذا القرار سياسياً واقتصادياً وقانونياً لأكثر من عقد، قبل أن تشهد الأمور نوعاً من الاستقرار والوضوح في الرؤية. والذي لا خلاف عليه هو أنه على الشركات البريطانية الاستمرار في الالتزام بقوانين الاتحاد الأوروبي عند مباشرتها أعمالها في أوروبا. إلا أن هناك نوعاً من الغموض حول مدى التزام الشركات البريطانية بالقوانين الأوروبية عند ممارستها لأعمالها داخل المملكة المتحدة. أما التبعات الاقتصادية على قرار الخروج فهي مزلزلة، فالتصويت البريطاني للخروج هو بداية لمرحلة من الاضطراب السياسي والاقتصادي في أوروبا. إذ شهد الجنيه الإسترليني انخفاضاً حاداً أمام الدولار الأمريكي بنسبة 10% ليعود لمستوى 1,35 دولار. كما شهدت البورصات الأوروبية انخفاضاً حاداً. وسيترتب على خروج بريطانيا زيادة حصة فرنسا في الناتج القومي الأوروبي من 15% إلى 18% وحصة ألمانيا من 20% إلى 25%. وانخفاض عدد سكان الاتحاد الأوروبي بنسبة 13% وانكماش اقتصادها بنسبة 17%. كما ستنخفض حصة أوروبا في التجارة العالمية من 22% إلى 18,2%. وسيتراجع مركز أوروبا إلى الدرجة الثانية بعد الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد عالمي. والمستفيد الأكبر من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هي لوكسمبورغ؛ إذ إنها المرشحة لتكون المقر المالي الجديد لأوروبا، والتي ستنتقل إليها المصارف والمؤسسات المالية. وقد تكون هناك فرصة حقيقية لمدن أخرى مثل دبي وهونج كونغ في استقطاب بعض المؤسسات المالية العالمية إليها، إذا أحسنت وبسرعة تحديث تشريعاتها الاقتصادية والمالية لتصبح جذابة لهذه المؤسسات. وهنالك عدة تصورات محتملة لمرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إذ قد تلجأ بريطانيا إلى إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع دول أوروبا تسمح لها بنوع من حرية تنقل البضائع والخدمات وهو ما تفعله سويسرا. أو أن تنضم بريطانيا إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية، الأمر الذي يتيح لها الدخول إلى السوق الأوروبية من دون أن تكون ملزمة بالتقيد بقوانين الاتحاد الأوروبي وهي حالة النرويج. أيّاً كان التصور الذي ستنتهي إليه الأمور، فإن الأمر المرجح حالياً على الأقل هو انخفاض النمو في بريطانيا، وزيادة عدد العاطلين عن العمل، مما سيغذي التوجه نحو اليمين المتطرف. كما أن الخروج من أوروبا قد يعني استفتاءً جديداً على استقلال إسكتلندا التي صوتت بكثافة لصالح البقاء وقالت رئيسة وزرائها، إن مستقبل إسكتلندا هو البقاء مع الاتحاد الأوروبي. كما أن نسبة التصويت ستعزز موقف أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا، وسيشجعها على المناداة بالمثل. وهذه النزعة نحو اليمين المتطرف قد تمهد المسرح السياسي في الولايات المتحدة لفوز ترامب بالرئاسة، وهو الأمر الذي ستكون له تبعات خطيرة على العالم بأجمعه.
مشاركة :