لم أكن في حياتي تلميذاً نجيباً للنقاد، والمؤولين للنص الأدبي، فقد أحببت المشاكسة والتمرد مذ كنت طفلا، ورضعت حليب المعاناة والهم الكوني، فقد اتسمت حياتي بقلق وجودي دائم، وبثورة ونفور من كل شيء سائد في المجتمع.كنت أنا ولم أكن الآخرين. وقد أدركت لاحقاً أن الشعر هو السلاح المعبر عن أحلام الإنسان وتطلعاته وآماله، وهو المعادلة التي تربط الهم الإنساني بالوجود وبالحقيقة التي تمنحه الخلود عن طريق نصه المتفرد والمميز؛ لذا جرت العادة أن أكتب نصوصاً خارج التنظير الأكاديمي والهندسة الإبداعية المحدودة، فكلما أمسكت بمفتاح جديد من مفاتيح الكتابة تكشف لي سر جديد من أسرار الحياة العميقة، فكل شاعر حاذق أراد لتجربته الشعرية أن تنضج وتختمر عليه أن يشرب عصارة الألم من كأس الحياة. الحياة التي ستعطي الشاعر مفاتيح الدهشة والحكمة إن عايش تفاصيلها وتناقضاتها اليومية المترعة بالشجون والنزيف الحاد المتكرر في كل لحظة. إن الواقع العراقي اليومي الذي أرهقته الحروب والنزاعات، الواقع المتخم بثقافة العنف والأيدولوجيات المحنطة التي تؤسس للخطاب التعبوي وسياسة الإقصاء، هو الواقع المرير والبائس الذي حاولت الهروب منه مراراً لجوء إلى الوسط الثقافي الذي يتسم بالإنسانية واللاطبقية، والذي يوفر لي فضاءً مفتوحاً للفكر للحر، ظناً مني أنني استطيع أن أمارس إنسانيتي بلا استعباد أو عبودية. كانت الصدمة أكبر من الواقع البائس، فالوسط الثقافي تملؤه الميليشيات الثقافية المريضة المصابة بهوس النرجسية والغرور،وسط مليء بالمخمورين والمنحرفين، والتجار الذين يتقنون فن التلاعب بعقول البسطاء لأجل غرائزهم ومصالحهم المادية، حينها أيقنت أن الثقافة تعاني من أزمة حقيقية خانقة، مرتبطة ارتباطاً جوهرياً بالأزمة السياسية التي تعاني منها البلاد، فالمستقبل لأشباه المثقفين، للنفعين المتطفلين، لعبيد الثقافة الاستهلاكية، للمتسلقين الذين يركنون أمام السلطة والمال، أما اصحاب الكفاءات والمواهب والابداعات فهم يغردون خارج السرب ويعيشون في غربة موحشة وعزلة روحية، لكنني كنت على يقين تام أنهم هم السائدون ولو بعد مئة عام وهم من سيمثلون الحقيقة التاريخية لبلادهم. إن المثقف الحقيقي هو الذي يعايش آلام الناس اليومية في الشارع، يسافر معهم في أحلامهم البسيطة وتطلعاتهم المستقبلية، يحترم غيبياتهم الميتافيزيقية، يعمل على استفزاز الوعي وإثارة التساؤلات، يبدأ مسيرته بالشك، وينتهي برحلة طويلة ومجهولة إلى عالم المعرفة والتأمل العميق. سرت قشعريرة في بدني، انتابني شعور غريب، تناهت إلى مسمعي أصوات كئيبة وغامضة، ابتلعت حزني كما يبتلع المساء شمس النهار، وأطلت التأمل في الأفق باحثاً عن دمعةٍ ضائعة، وعن قلبٍ أودعته يوماً في بقايا ذلك الوطن المتناثر.
مشاركة :