لا تخلو الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة من الدعاية السلبية القائمة على إبراز مساوئ الخصوم، فالمنهاج التلقائي لكل مرشّح هو معارضة هذه المساوئ بما يقدّمه هو من محاسن ومكاسب للناخبين. أي أن المعادلة كانت دوماً أن السلبي في شأن الخصم هو المدخل للإيجابي في شأن الذات، وهذا الإيجابي هو صلب الموضوع ومادة استقطاب الناخب وتعبئته. أما في المواجهة الانتخابية التي تشهدها الولايات المتحدة اليوم، فصلب الموضوع أن الخصم شرّ فحسب، فليس على الناخب أن ينشغل بما هو أصلح وأفضل، بل عليه أن يتجنب الأسوأ. غير أن مرشحي الحزبين، أي هيلاري كلينتون من جانب الديموقراطيين ودونالد ترامب من جانب الجمهوريين، ليسا على مسافة واحدة من هذه المعادلة الجديدة، لا من حيث القدرة على الاستثمار، ولا من حيث نجاعة العائدات. وبالنسبة إلى ترامب الذي استولى على الترشيح الجمهوري عبر حملة شعبوية قائمة على الطعن والتجريح والتهكم، فإن أسلوب استدعاء عيوب الخصم ومساوئه، سواء ما صحّ منها أو ما كان محض افتراء، أثبت فاعلية واضحة. والإشارات ممكنة بإسهاب إلى استياء جمهور الناخبين من الطبقة السياسية وإلى سوء أداء المتنافسين وتخلفهم عن تقدير قوة ترامب وجاذبيته. إلا أن الحقيقة الصعبة التي أثبتها ترامب في حملته هي أن البذاءة والوقاحة والكذب والتهريج، أدوات فعّالة في استقطاب الجمهور وتعبئته، على الأقل في مرحلة الانتخابات التمهيدية، إذ تشكّل قراراً قابلاً للمراجعة والاستدراك لدى أصحابه، أي الناخبين، عند الاستحقاق الفعلي، أي يوم الانتخابات. والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان بعض هذا الجمهور، إذ سمح لنفسه بالإنجرار خلف استعراضيات ترامب، سيكرر التأييد له في الاقتراع الفعلي. فالتركيبة المثلى بالنسبة إلى ترامب هي متابعة أسلوب الإثارة والتجنّي للمحافظة على شقّ من جمهور مؤيديه، وتقديم بعض المادة الصالحة لاستجابة بعض من صوّت له على افتراض انتقاله إلى مواقف أكثر عقلانية في المرحلة التالية. أما حملة هيلاري كلينتون فتسعى تحديداً إلى مــنع ترامب من هذا التحوّل، أي من الموازنة بين «البلطجـــة» والمضمون، لإرغامه على البقاء في نطاق المنكـــر سياسياً، بافتراض أن للخطاب السياسي المنحط حدّاً أعلى من القدرة على الاستقطاب. ففي هـــذا السياق، يمكن فهم الكلمتين اللتين ألقتهما كليــــنتون على التوالي في الأسابيع القليلة الماضية. ففــــي الثاني من الشهر الجاري، ألقت كلمتها الأولى فــــي مدينة سان دييغو، فشرّحت ما وصفته بانعدام الكفــــاءة وافتقاد المزاج الرئاسي لدى ترامب، في إطار استعـــراضها الخطوط الرئيسية لسياستها الخـــارجية المرتقبة. لم تتطرق كلينتون إلى مواقف تـــرامب في تفاصيلها، والواقع أن ذلك ليس بالإمكان علـــى أي حال، حيث أن ترامب لا يقدّم المضمون الواضح في أي ملف، لا سيما في السياسة الخارجية. إلا أن كلينتون لجأت إلى التهكم الاستفزازي في تشديدها على عدم صلاحيته للمنصب. وهي بذلك انتقلت من أسلوب التحدي الموضوعي والعقلاني الذي كانت سعت إلى إظهاره وكأنه الثابت في خطابها، تحديداً إلى ما يعتمده ترامب من استعراضيات وإثارة. ويبدو أن كلينتون نجحت على مستويين، الأول إرباك ترامب ودفعه إلى التخبُّط بتصريحات الردود، والثاني الاستيلاء على المبادرة في التداولات التسطيحية للسجالات السياسية، فمعظم برامج التعليق السياسي الفكاهي كما المواقع المشابهة، تلقفت أقوال كلينتون وأعادت بثها. ونجاح كلينتون هذا دفعها إلى تكرار المهمة، في تركيز مزدوج خلال كلمة ألقتها الأسبوع الفائت على ملامح سياستها الاقتصادية وعلى نقاط الضعف لدونالد ترامب في قطاع الأعمال والمال. ومجدداً فإن حصيلة هذه الكلمة كانت انزلاقاً كلامياً لترامب في محاولة الرد، وتلقفاً في أوساط الترفيه السياسي لطعونها به واستهزائها بشخصه. وفي سياق هذه الدورات الإعلامية، فإن محاولة تقويم الدسامة السياسية والاقتصادية لكل من كلينتون وترامب تنطوي على قدر محدود من الفائدة. وإذا كان الحساب على أساس المعطيات المتعارف عليها، فلا شك في أن كلينتون تتفوق على ترامب بأشواط، لكنه نجح في تبديل المعطيات المهمة، وتغيير القاعدة التي لا بد من مناجاتها. ويبدو أن ما تقدّمه كلينتون من بيان لمواقفها بصيغة تنضح معرفة واطلاعاً هو بالضبط للاستحصال على تأييد من لا تزال هذه الاعتبارات ذات أهمية بالنسبة إليه. فساحة المعركة عند كلينتون هي الجمهور الأهوائي الذي جيّشه ترامب. وهي، بتهكمها، بل بقدر من التهريج في الأداء المسرحي، تمكنت بالفعل من منافسة ترامب في ساحته ووفق معاييره. وإذا كان ترامب أبدى بعض الارتباك في رد فعله الأولي، فإنه اجتهد في العودة إلى الهجوم، بعدما أُرغم على الدفاع، من خلال سلسلة من الطعون المستهلكة، القديمة والجديدة، والتي سبق لها أن استنزفت صورة هيلاري كلينتون وصدقيتها. والهدف الواضح هنا هو تأصيل الرأي السلبي إزاءها لدى الجمهور النافر منها، بانتظار اكتمال العدة لهجوم يستهدف بعض الجمهور الذي مازال يفضّلها عليه. ولإيفاء المظاهر حقّها، فإن عنوان كلمة ترامب للطعن بكلينتون كان السياسة الخارجية. ويمكن كالعادة الإشارة إلى افتقاد المضمون في تأكيدات ترامب الناقضة لكلينتون. فهو عندما يقول أنها المسؤولة الأولى عن انهيار الشرق الأوسط ليس في حاجة إلى تقديم القرائن والأدلة، إذ أن هذا الطعن لا ينصب في سياق سجال موضوعي عقلاني، بل في إطار تغذية البغض الأهوائي لكلينتون في الأوساط التي تنبذها. قد تلام كلينتون إذاً على الانحدار الذي انحدرته حين ماثلت خطابيتها، في بعض الأوجه على الأقل، أساليب ترامب في الطعن الشخصي، إلا أنها، إذ يسعها التشديد على أن التشابه هو في الشكل فحسب، لأن لكلامها مضموناً يخلو منه كلامه، فإنها تستطيع أن تلحظ أنها نقلت المعركة إلى جمهوره، فيما هو لا يزال عاجزاً عن مخاطبة جمهورها. وبما أن المواجهة اليوم هي في دعوة للجمهور لتجنُّب الأسوأ، فرجاؤها أن تجعل الذين يعتبرون ترامب هو الأسوأ، القاعدة الناخبة الأكثر عدداً.
مشاركة :