مع دخول الأزمة السورية عامها السادس، لا تزال القوى الإقليمية والدولية تراهن على خيار الحلول الدبلوماسية بهدف الضغط على نظام بشار الأسد ليرحل عن السلطة، دون أن تلوح في الأفق بوادر الحل الدبلوماسي، وكلما مرت الأيام والأعوام تعقدت الأزمة أكثر وأكثر، لأسباب عديدة، منها ما هو متعلق بدخول أطراف إقليمية ودولية حلبة الصراع، أو بسبب زيادة عدد الضحايا وتشابك مصائرهم مع العديد من المتغيرات العالمية والإقليمية، وهو ما يرشح الأزمة السورية لأن تصبح الأزمة الأكثر دموية في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين. يحزنني للأسف عند متابعة الملف السوري ما تلوكه ألسنة الكثير من الساسة والمحللين السياسيين من أن حل الأزمة السورية يكمن في رحيل الأسد بالقوة أو من خلال القنوات الدبلوماسية، والمحزن في الأمر هو تساوي الخيارين عند هؤلاء المتخصصين الذين استمرأ الكثير منهم استمرار الأزمة، وفي واقع الأمر لم يبد أن كلا الحلين قد وجد طريقه لحل الأزمة الدامية، فسورية الممزقة الآن تئن تحت وطأة الكثير من الجماعات المتناحرة، وفي المقابل يستمر النظام السوري في تلقي الدعم الخارجي من إيران وروسيا لتجبير أطرافه المبتورة وتقوية دعائمه المفككة. من المؤكد أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إلى متى سيستمر هذا الوضع المأساوي، وإلى متى ستستمر هذه المعركة التي تبدو بلا نهاية قريبة أو واضحة؟، وهنا يحضرني مصطلح سياسي قد يمثل أحد الحلول قصيرة المدى لحل الأزمة، وهو استخدام الدبلوماسية القسرية، وهو مصطلح يعني في العرف الدبلوماسي التفاوض من خلال التلويح باستخدام القوة، التهديد باللجوء لحل الأزمة عسكريا في ما لو فشلت المفاوضات، وهو مصطلح يختلف عن سياسة العصا والجزرة، ففي الوقت الذي تعني فيه الأخيرة تطبيق القوة حينا وإبداء اللين حينا آخر، فإن الأولى تعني التفاوض بين طرفين غير متكافئين، أحدهما أكثر قوة ونفوذا وتفوقا عن الطرف الآخر، والمفاوضات هدفها إملاء الشروط والالتزامات والتعليمات على الطرف الأضعف، وهو –بعكس الشائع- ليس فيه تنازلات مشتركة، ليس فيه مساومات، وإنما أشبه بحالة تهديد لبقة تحدد مدى تفوق ونفوذ كل طرف من أطراف الصراع فوق مائدة المفاوضات. الدبلوماسية القسرية هى وسيلة للتعبير عن فرض الرأي السياسي بالقوة، وهي ليست بدعة جديدة فقد تم استخدامها على المستوى الدولي مرارا وتكرارا، من الطرف المنتصر ضد الأضعف سياسيا وعسكريا، وهى تستخدم منذ بداية الصراعات الإقليمية الدولية منذ نشوء ما يعرف بالدولة الحديثة وحتى يومنا هذا، وفي التاريخ الحديث استخدمه الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور المنهزمين لإعلان استسلامهم دون قيد أو شرط، كما تم استخدامه مع نظام طالبان في أفغانستان، وتم استخدامه أيضا مع نظام صدام حسين سواء أثناء حرب الخليج الثانية أو عند غزو العراق في 2003، وهى مجرد نماذج إقليمية نسوقها هنا فحسب لتوضيح مدى نجاح تطبيق هذه الدبلوماسية في حال استخدامها بجدية وحسم. تكمن الخطورة هنا في أن النظام السوري لمس عدم الجدية في كل التهديدات التي تلقاها دوليا، وهو ما شجعه على المضي قدما في المزيد من قتل السوريين من أبناء شعبه والتنكيل بهم بقسوة ووحشية، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة والإدارة الأمريكية بواشطن لا تزال تراوح مكانها حيال الأزمة في سورية، وهى تتصرف بيد مرتعشة وضمير مضطرب، وذلك على الرغم من أن مصطلح الدبلوماسية القسرية قد صاغته إدارة الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن، واستخدمته لوصف المفاوضات الاستباقية مع النظام العراقي العام 2003 قبل بدء الحرب، بل إن إدارة الرئيس بوش عندما لمست بعض الأطراف الدولية المعارضة للحرب، لجأت إلى تكوين تحالف دولي خارج نطاق مجلس الأمن تكون من 33 دولة واستخدمته غطاء لعملياتها العسكرية. من الواضح أن الولايات المتحدة لا تنتوي استخدام الدبلوماسية القسرية الآن، على الرغم من أن ظروف نظام بشار أقل تعقيدا من ظروف النظام العراقي آنذاك، فالجيش السوري منهك ولا يحكم أكثر من 30 % من مساحة سورية، وفي ظني تكمن سر قوة نظام الأسد في بقاء العاصمة في يده وتحت سيطرته، فأثناء غزو العراق سقط النظام بسقوط العاصمة، ونحن لا نعرف تحديدا سبب تريث الولايات المتحدة في إسقاط نظام الأسد، هل هو تردد الرئيس أوباما؟ أم أنه التدخل الروسي؟ مع العلم أن روسيا لا تسعى إطلاقا لأي مواجهة مع الولايات المتحدة، وهو ما عبر عنه بوتين صراحة عام 2003 عند اجتياح الرئيس بوش للعراق. الأغلب أن سبب فشل حل الأزمة السورية هو السوريون أنفسهم، فالمعارضة السورية منقسمة على نفسها، وبالتالي فإن القوى الدولية لم تجد حتى الآن بديلا مناسبا يحل محل نظام الأسد حتى تقوم بالتفاوض القسري لتمكينه من الحكم، ومع إطالة أمد الحرب لن يربح أحد سوى الأسد، فالسوريون تدريجيا سيملون الحرب ويقبلون بالأمر الواقع أيا كان، والوقت في صالح الأسد باعتباره القوة الوحيدة المنظمة على أرض المعركة، وفي اعتقادي أن الوقت قد حان للتحول أولا لتكتيك استعادة العاصمة من سيطرة الأسد، فالعاصمة هي بمثابة القلب للجسد، والجسد يستمر في العيش إن بترت أطرافه ولكنه لا يستمر في العيش إن توقف قلبه عن الحياة، وبعدها يتم تنظيم صفوف المعارضة، ثم التفاوض مع النظام السوري قسريا لتمكين المعارضة من حكم البلاد، أو فليتحمل كافة العواقب لعدم رضوخه لرأي الطرف الأقوى عسكريا ودبلوماسيا.
مشاركة :