صفحات من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم «4 – 5»

  • 6/26/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لدى كثيرين الرغبة في المقام في ظل ثمارهم ينعمون بطيب مذاقها، أضف إلى ذلك أن جهة تبوك بعيدة جداً عن المدينة، وكذلك وعورة الطريق وصعوبته بعد أن دانت للنبي عليه أفضل الصلاة والتسليم مكة وأغلب الجزيرة العربية، كانت هناك قوة أزعجت المسلمين ألا وهي قوة «الرومان» أكبر قوة عسكرية ظهرت على الأرض في ذلك الزمان، وقد سبق أن حصلت حادثة ألا وهي قتل «الحارث بن عمير الأزدي» سفير الرسول إلى عظيم بصرى على يد «شرحبيل بن عمرو الغساني»، وبسبب ذلك كانت سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بقوة الرومان في «مؤتة»، ولم تنجح في أخذ الثأر من المتسببين في قتل سفير رسول الله؛ حيث كانت كثرة جيش الرومان تفوق قوة المسلمين البالغة ثلاثة آلاف مقاتل، واستطاع القائد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- تجنيب الجيش الإبادة الكاملة من خلال خطة الانسحاب التي رسمها لهم، وتم الانسحاب بأقل الخسائر، ولما عادوا إلى المدينة قام الأطفال برمي الحصى عليهم وينعتونهم «بالفُرار» فيرد الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: بل هم «الكُرار»، وكان هذا الاستشراف من النبي لمستقبل المسلمين المشرف أنه تحقق في أقل من سنة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام؛ حيث تمكن المسلمون في عهد أبي بكر وبقيادة خالد بن الوليد أن يهزموا الروم في موقعة «اليرموك». بعد مرور سنة كاملة على معركة «مؤتة» بدأ قيصر الرومان يجهز جيشاً كبيراً لمحاربة القوة الإسلامية الجديدة، وبدأ المسلمون يأخذون الحيطة والحذر في المدينة خوفاً من قدوم الرومان إليهم، وكانت الأخبار تصل إلى الرسول عن طريق الأنباط الذي يأتون بالزيت إلى المدينة ليبيعوه، وأعلموهم أن هرقل قد جمع ما يقارب الأربعين ألف مقاتل لمقاتلتهم، ومما زاد الموقف سوءاً أن الزمان كان قيظاً شديداً، وكان الناس في عسرة وجدب وبلاء، وعادة فصل الصيف تكون أغلب الثمار قد طابت، ويكون لدى كثيرين الرغبة في المقام في ظل ثمارهم ينعمون بطيب مذاقها، أضف إلى ذلك أن جهة تبوك بعيدة جداً عن المدينة، وكذلك وعورة الطريق وصعوبته. من خلال الأخبار التي كانت تصل إلى الرسول أعلن عليه الصلاة والسلام التجهز للقتال، وكانت عادته في غزواته أنه يحيطها بالسرية التامة إلا هذه الغزوة، فإنه أعلن جهته ومراده، فبدأت وفود القبائل تفد إلى المدينة تلبية لدعوة الرسول، وبدأ الناس يتسابقون في إنفاق الأموال، كلٌ قدر استطاعته، فتصدق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، وعمر بن الخطاب بنصف ماله، وكان لعثمان بن عفان رضي الله النصيب الأوفر في التبرع؛ حيث قُدرت تبرعاته بتسعمائة بعير ومائة فرس وألف دينار نثرها في حجر رسول الله، فقال الرسول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم». كان المسلمون حريصين على المشاركة في هذا الغزوة، ما عدا الذين في قلوبهم مرض وهم «المنافقون» الذين حاولوا زعزعة معنويات المسلمين؛ حيث أسسوا مسجداً ليجتمعوا فيه ويتآمروا على المسلمين، وهو ما يعرف بـ «مسجد الضرار» الذي هدمه النبي عليه الصلاة والسلام بعد قفوله من الغزوة. كان عدد الجيش حوالي ثلاثين ألف مقاتل، وهذا العدد يُعدُ كبيراً، ولم يتم جمع مثل هذا العدد من قبل، ولذلك كان تجهيزه صعباً للغاية، وسمي بـ «جيش العسرة»، وسار الجيش إلى تبوك، ووصلها بعد مشقة كبيرة لاقاها المسلمون، وكانت هذه الغزوة بمنزلة اختبار شديد من الله للمسلمين؛ لأنها كانت آخر غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت نتيجة هذه الغزوة هي: مبادرة الرسول بالهجوم على العدو وإخافته وإظهار قوة المسلمين عسكرياً، ومن النتائج أيضاً أنه لم يكن هناك مواجهة مباشرة مع الرومان، ولذلك حصل المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة نظير السمعة التي حصلوا عليها من تلك الحملة العسكرية الكبيرة، وكانت مدة الحملة خمسين يوماً. عاد الرسول إلى المدينة وأثناء عودته وهو يمر بالعقبة تعرض إلى الغدر من بعض المنافقين الذين أرادوا الفتك به وعددهم اثنا عشر، إلا أن الله أرعبهم بمحجن كانت بيد حذيفة بن اليمان ففروا، وكانوا ملثمين إلا أن حذيفة عرفهم بخيولهم وعدهم على الرسول. وقد تخلف عن هذه الغزوة من كان لديه عذر، أو من كذبوا على الرسول وهم المنافقون وكان عددهم يقارب بضعة وثمانين رجلاً، وقد نزلت سورة التوبة في فضح المنافقين وما قاموا به من أعمال ضد المسلمين، وكان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر، وهم الذين ابتلاهم الله، ثم تاب عليهم، وهؤلاء هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فكانوا صادقين في جوابهم عندما سألهم الرسول عن سبب تخلفهم عن الغزوة رغم نصحهم من أقربائهم بأن يكذبوا على الرسول إلا أنهم أخبروا الرسول بأن ليس لهم عُذر، فأمر الرسول أصحابه بعدم الحديث معهم، أو الجلوس معهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبعد أن مر عليهم أربعون يوماً من الشدة أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يعتزلوا نساءهم حتى تمت مقاطعتهم لمدة خمسين ليلة، وكانت بعدد أيام الغزوة، وبعدها أنزل الله عفوه عنهم، ففرح المسلمون فرحاً كبيراً، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه ولا غايته. وكان أثر هذه الغزوة كبيراً في بسط نفوذ المسلمين على جزيرة العرب، وضعفت وخارت عزائم المنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وبدأت وفود العرب تفد إلى المدينة من كل حدب وصوب تعلن إسلامها وولاءها للرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم، وماذا بعد هذه السيرة الحافلة بالكفاح والصبر والأسى؟

مشاركة :