تهرب من جحيم الحوثي إلى جنة الشرعية "مدينة مأرب" أو هكذا تبدو من خلال ما تقرؤه عنها وتسمع في صفحات التواصل الاجتماعي مأرب... بعد سفر يستمر أكثر من اثنتي عشرة ساعة من الرعب المنقسم بين نقاط التفتيش وقُطاع الطرق والطريق المتهالك الذي لا يختلف كثيراً عن حال بلادنا.. يستقبلك مدخل مدينة مأرب المتهالك الذي تلفه هالة من الغبار الكثيف في مشهد وكأنه احتفاء كرنفالي بوصولك ينتهي بصوت يشق عتمة الغبار.. خيال أحد العساكر الواقفين على المدخل يسأل عن بطاقتك الشخصية، بعد أخذ ورَد تدخل إلى ما يسمى المجمع الذي هو حاضرة مأرب ومأوى ما يسمى بالشرعية، يستقبلك طريق مرصع بالحفر وسائقون يخرجون ويدخلون من كل مكان في الطريق، منظر يشبه كثيراً تلك القذائف والشظايا التي تتطاير من مخازن الأسلحة التي يقصفها طيران التحالف في صنعاء، بعد أن تنجو بأعجوبة من قذائف السيارات المتطايرة في كل مكان في الشارع العام للمجمع... يبدأ المشهد يتضح لك شيئاً فشيئاً... وتبدأ الجنة في عرض مفاتنها عليك.. شمس ساطعة تتربع وسط السماء.. مطلقة سياط لهيبها الحاني على كل ما هو تحتها، نسمات عليلة من الهواء الحار الذي يعبق برائحة غبار الصحراء السبئية تشعر حينها وكأن كل قطرة ماء في جسمك قد خرجت لتحتفل بوصولها إلى هذه الجنة... هنا تقرأ السلام والطمأنينة في وجوه الناس، وما يحملونه على أكتافهم من أنواع الأسلحة التي لم أرَها من قبل، منظر يذكرني بالعروض العسكرية في أيام الأعياد الوطنية.. يصل صديقك ليقطع عليك متعتك ويأخذك إلى فندق غرفه تبدو متناسقة بشكل جميل ورائع مع جمال الشارع الذي كنت فيه، أسرَّة وثيرة لدرجة أنك لا تستطيع معرفة الفرق بين الفرش وقاع السرير، شراشف وبطانيات تبدو وكأن ملوك سبأ الغابرين كانوا هم من يتغطى بها... شمس ساطعة.. وعبق غبار صحراء سبأ... وفندق فخم، جمال لا تريد أن ينتهي، خصوصاً عندما يخبرك صديقك بأن الكهرباء مقطوعة وستعود بعد ثلاث ساعات، ومن ثم تعاود الانقطاع لثلاث ساعات أخرى وهكذا دواليك... في صباح اليوم التالي، وفي ذلك الفندق الفخم الذي اتضح لي فيما بعد بأنه فعلاً أفخم فندق موجود في مأرب، تهب عليك أولى نسمات الشرعية بفاتورة غرفة الفندق التي مهرت برقم (7 وثلاثة أصفار بجانبه)، بعد معاملة حسنة انتهت بخروجي من الفندق، قررت أن أبحث عن شقة أو غرفة خاصة، في أفياء مفاتن جنة مأرب والشرعية، انطلقت في رحلة البحث التي التقيت خلالها بأناس كثر هاجروا من جحيم صنعاء، أغلبهم ممن فجر الحوثيون منازلهم، ومنهم من فر من ملاحقاتهم يتفيأون مثلي.. ظلال جنة مأرب والشرعية، منهم من يسكن مع ثلاث عائلات بأطفالهم ونسائهم في بيت مكون من غرفتين وحمام ومطبخ بإيجار يصل إلى 200 ألف ريال، ومنهم من يسكن في شبه بيت بإيجار بلغ 120 ألف ريال، وبشرط أن تدفع إيجار 6 شهور مقدماً، وللمؤجر الحق في طردك في أي وقت في حال أتى مستأجر آخر ودفع أكثر منك، نعم هؤلاء هم ملوك سبأ ليسوا جشعين أبداً فقد استقبلونا برحابة صدر وكرم ليس له مثيل، لدرجة أن يعرض عليَّ أحدهم أن أدفع خمسة ملايين ريال إيجاراً مقدماً؛ لكي يبني لي مسكناً في الطابق الثاني، نعم لقد آوونا وأكرمونا؛ لأنهم يعلمون بأنا لجأنا إليهم لا نلوي على شيء، فبيوتنا فُجرت وأموالنا صُودرت وأبناؤنا كثير منهم إما معتقل أو في جبهات القتال يذود عن حياض ملوك سبأ، نعم ملوك سبأ هم من آثرونا على أهلهم وأعطونا بيوتهم وهاجروا إلى صنعاء لكي يطلبوا منا كل شهر إيجاراً ما آثرونا به، نعم منا من أوثر بـ120 ألفاً وآخر بـ200 ألف، وثالث بـ150 ألفاً. لا تسألني عن الشرعية التي بسطت نفوذها وعدلها على كل شبر في جنة مأرب، ولا تسألني عن المحافظ الذي يتعامل بعقلية عاقل حارة في أحد أحياء صنعاء، لا تسألني عن شرعية لم تستطِع إيجاد خيام للنازحين ولم تستطِع حتى توفير أدنى احتياجات لهم من الخدمات اﻷساسية كالماء والكهرباء والغذاء. شرعية لم تجنبهم جشع المؤجرين الذين ليس فيهم ذرة من نخوة أو شرف، كما شرعيتنا التي لم تصنع حيال جشعهم شيئاً، شرعية تتعامل كأرملة تبحث لها عن زوج يعول شعبها. نعم أعرف أن الطلعة الجوية الواحدة لإحدى طائرات التحالف تكلف ما لا يقل عن مليون دولار، ما يكفي لبناء مئات الوحدات السكنية للنازحين، نعم أعرف أن قيمة واحد من صواريخ الكاتيوشا التي يطلق العشرات منها يومياً من مأرب ثمنة يكفي لإعالة أسرة نازحة لأعوام، نعم عرفت الآن أن اليمن بخير، وعدت أدراجي تاركاً ذلك المدخل المهترئ لـ"جنة الشرعية"، وخيالات أولئك الجنود الواقفين عليه كغربان تنعق فوق بقايا أطلال شرعية كسيحة لا تملك من أمرها شيئاً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :