في مدينة «سياتل» على الساحل الغربي للولايات المتحدة، ثمة ضاحية يعرفها الأهلون جيداً. إنها ضاحية «ريدموند» التي تستضيف المقر الأساسي لشركة «مايكروسوفت» العملاقة. لا يدخل المُجمّع الضخم لتلك الشركة إلا العاملون فيه، أو من يملكون إذناً للزيارة. وتنطوي جنباته على الأسرار التكنولوجية المعقّدة التي صَنَعَتْ (ولا تزال) قصة نجاح مذهل. تروي القصة ظهور نظام «ويندوز» على يد طالب يعمل في الكاراج الخلفي لمنزل أسرته، ثم هيمنته على ما يزيد على تسعين في المئة من كومبيوترات العالم. وتُنظّم الشركة زيارات صحافيّة إلى ذلك المقر، في مناسبات تكاد لا تنقطع. وهناك، يُنظر إلى قسم «البحوث والتطوير» Research Development في الشركة باعتباره تجمعاً لأصحاب الأدمغة «المشتعلة» التي لا تطيق أن تفكر بالطرق التقليدية. وفي ذلك القسم، يغدو الحديث عن التكنولوجيا الرقميّة غرائبياً. وفي جنباته، تضحي حتى أشد الأفكار غرائبية شيئاً «مبتذلاً» وعادياً وشائعاً. ولعل كثيرين من غير المعتادين على النيران المتّقدة في عقول المُبدعين، ربما ظنّوا «قسم البحوث والتطوير» في «مايكروسوفت»، موئلاً لمن انفلت خيالهم ولم يعودوا بقادرين على السيطرة عليه. لنقل أن أحداً خرج بفكرة «ضخمة» تقول إنه يمكن للكومبيوتر المحمول باليد أن يتطور إلى درجة يصبح فيها قادراً على صنع المؤثرات البصرية والصوتية المتطورة للأفلام، مثل تحويل صورة لمنزل ريفي إلى شريط عن الحياة اليومية في الشتاء، مع المطر المتهاطل والتماع البرق ودوي الرعد وتدفق الجداول. بعد هنيهة، تبدو تلك الفكرة مبتذلة لأن مختبر «مايكروسوفت» في العاصمة الصينية بكين، الذي يرتبط بالإنترنت مع هذا القسم، أنجزها قبل بضع سنوات! سيارة الشرطة «تقرأ» المنزل! يحتوي قسم «البحوث والتطوير» في مجمع «ريدموند» على جناح لا يكف عن التبدّل ويقصده الكثير من الزوار: «البيت الذكــــي». وثمة منزل يشبهه على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، في «سيول» (عاصمة كوريا الجنوبية) تُشرف عليه شركـــة «سامسونغ» للإلكترونيات. وهناك ما يشبه تلك الأشياء في قسم متخصّص بما يشار إليه باسم «الحوسبة الشاملة في «معهد ماساشوستس للتقنية» في الولايات المتحدة. وعبر تلك النماذج وغيرها، يقدم خبراء التكنولوجيا الرقمية ما يفترض أن يكون صورة لما ستصير إليه منازلنا مستقبلاً، وغالباً من منظور شركات الكومبيوتر والإنترنت. وتشترك تلك «المنازل الذكية» في أشياء كثيرة. على رغم الحرص على أن يبدو أثاثها مألوفاً، وأحياناً مع لمسة كلاسيكية، إلا أن لا شيء فيها تنطبق عليه صفة المألوف. ومثلاً، فإن أجهزة المطبخ تدار بالكومبيوتر، الأصح القول إن كلاً منها يحتوي على كومبيوتر صغير «مدفون» في ثناياه. فعلى باب البرّاد (الثلاجة)، هناك شاشة للحاسوب الذي يديرها، كما أنه موصول إلى الإنترنت. ويلتقط ذلك الكومبيوتر معلومات عن محتويات البرّاد، بفضل أشرطة إلكترونية مُشفّرة مثبتة في أشيائها. تسمى تلك الأشرطة «لوح الشيفرة» («بار كود» Bar Code)، التي هي علامات إلكترونية تبث أشعة راديو شديدة الضآلة. هل قابلت يوماً لوح «بار كود»؟ أنت تراه يومياً في أسفل السلع التي نشتريها من «السوبر ماركت» (وبعض المكتبات ومحال بيع الملابس) والتي تعطي السعر عند تقريبها من أداة تقرأها، غالباً من خلال مرور ضوء أحمر عليها. أشباح قاتمة لنعد إلى «المنزل الذكي». في ذلك المكان، تتميّز «ألواح الشيفرة» في البرّاد بأنها متقدّمة عن تلك التي نراها راهناً. إذ تحتوي على معلومات تفصيلية مثل السعر وتاريخ انتهاء الصلاحية ومكان الصُنع وغيرها. وثمة أنواع منها «تقيس» الكمية التي تنقص من المحتويات كزجاجة المشروبات الغازية أو قطعة اللحم أو الخضر والفواكه. إذا شارفت على الانتهاء، يرسل «لوح الشيفرة» رسالة قصيرة إلى كومبيوتر البرّاد، وهو متصل بالإنترنت، ما يتيح لصاحب الدار الاتصال بالسوبرماركت لتجديد محتويات البرّاد. في المنازل الذكيّة، من المستطاع برمجة كومبيوتر البراد كي يتصل بالسوبرماركت مباشرة (بعبارة أدق، يتصل بكومبيوتر آخر في السوبر ماركت) ويُعدّ طلبية بالمشتريات المطلوبة. وتعمل معظم مكوّنات المنزل بتلك الطريقة ذاتها. إذا اشتريت مقعداً «ذكياً»، يُرسل إليه جهاز متخصص معلومات عنك تتضمن اسمك وعنوانك ورقم هاتفك، لتُضاف إلى المعلومات التي يحتويها «اللوح الذكي» أصلاً مثل السعر ونوعية الخشب والمصنع والمصدر والمستورد وغيرها. على رغم مظهرها البريء، فإن كل محتويات «المنزل الذكي» تضم أنواعاً متنوعة من تلك الأشرطة الإلكترونية المُشفّرة. وتنام تلك الألواح التي يرى فيها بعضهم تحدّياً ضخماً لخصوصية الأفراد ولحقهم في الحفاظ على الحرية الشخصية، في خزانة الملابس والثياب والبرادي والتلفزيون والراديو وجهاز «هـــاي فاي» والكراسي والأسرة والمقاعد وغـــيرها. مثــــلاً، تــفــــتح خزانة الملابس، وتــقرأ على الشاشة ما تحتويه من ثياب لكي تختار منها ما يناسبك. وعندما تُخرج قميصاً لتلبسه، تنتقل المعلومات عنه في كومبيوتر الخزانة من ملف «الموجــودات» إلى ملف «قيد الاستخدام». وإذا وضـــعت القميص ذاته في السلة المخصصة للملابس التي يجب إرسالها للكيّ، تنقل المعلومات عنه إلى ملف آخر؛ وكذلك الأمر إذا وضعته في سلة الغسيل وهكذا دواليك. وينطبق الأمر على الساعة وزجاجة العطر والعقد والإسوارة والحلق والبروش وغيرها.
مشاركة :