يعاني الإعلام في شكل عام من أزمة وجودية تتمثل في عدم قدرته على منافسة وسائل التواصل الاجتماعي. وتتركز هذه الأزمة تحديداً في القطاع المرئي للإعلام، اذ سرعان ما تحول من ناقل أول للحدث الى ناقل ثانوي، بعد أن ساهم انتشار مواقع التواصل في احتكار حصرية بث الحدث وسحب البساط من تحت وسائل الإعلام. ونظراً إلى هذه الأزمة التي تعصف في كل وسائل الإعلام العالمية منها والعربية، سعت بعض المؤسسات الإعلامية الى بث برامج بديلة تهدف في شكل رئيسي الى زيادة نسبة المشاهدة والإقبال عليها علها تستطيع العودة الى سياق المنافسة. ولكن هذا الانجرار، غيّر من طبيعة البرامج التي تُعرض على هذه الشاشات. اذ انتشرت في الآونة الأخيرة برامج «كوميدية» عربية على وجه الخصوص، تحاكي «الرعب» و»العنف» كمصدر لجذب المشاهدين. واستعمل المنتجون طاقاتهم الكاملة بهدف بث الرعب في نفوس الضيوف الذين يصبحون «ضحايا» بالمعنى الحرفي للكلمة، يتمتع الجمهور برؤيتهم يتعذبون. وضجت التلفزيونات ووسائل التواصل ببرامج على هذا المنوال، اذ يُمكن ذكر سلسلة برامج الممثل المصري رامز جلال الذي تفنن في تعذيب ضيوفه بشتى الطرق، كان آخرها إيهامهم باندلاع حريق في المبنى لرؤية ردود افعالهم في اوقات الخطر. هذه الكوميدية السادية في كل معالمها، اضيف إليها هذا الموسم برنامج جديد يحاكي أفظع فظائع التعذيب التي يُمكن أن يتصورها عقل «كوميدي». اذ تعرض قناة «النهار» الفضائية المصرية برنامجاً بعنوان «ميني داعش» والذي يُمكن تخيل ما سيحدث فيه من اسمه فقط. وتهدف هذه البرامج عموماً الى بث الرعب في نفس الضيف من خلال اعتماد «الإيهام» بالخطر بهدف تحفيزه ورؤية ردود أفعاله، اضافة الى «تسلية» المشاهد وإعطائه شعوراً نسبياً بالأمان كونه لا يمت للشهرة بصلة ما يجعله بمأمن من «مقلب» كهذا. وعلى طريقة الاستخبارات الأميركية في تعاملها مع المعتقلين «الخطيرين» من طريق ايهامهم بالغرق، تعمد هذه البرامج الى اعتماد الإيهام بالخطر. فرامز جلال يوهم ضيوفه بأنهم داخل فندق يحترق، وخالد عليش يتفنن في اعادة أسوأ مظاهر الرعب التي عرفها العالم العربي الحديث، المصورة منها على الأقل، الى نفوس المشاهد العربي الآمن في منزله على شاشاة التلفزة. لا شك في أن «داعش» عملت جاهدة على فن الصورة في عملية الترويع والتخويف، اذ تفننت ولا تزال تتفنن في طرق التعذيب والقتل المصور بأحدث التقنيات لهدف واحد لا بديل له. تريد منّا أن نهابها لنخاف قتالها ونسلم بسلطويتها علينا. أما هذه البرامج، فكل هدفها جذب المشاهد العربي للتسمر على الشاشة برؤية كيف سيتم «تعذيب» فلان. والحال، أن استنساخ هذه الصورة وقولبتها تحت مسميات الكوميدية الترفيهية تفضح الأزمة التي تعانيها صناعة الترفيه في العالم العربي، فعملياً هل يمكن صناعة ترفيه في بلاد أدمن قاطنوها صور الموت الذي يحيطهم من كل ناحية؟ ولم يتلقف الشارع المصري البرنامج الذي اعتبرته صحيفة «دايلي مايل» البريطانية من «أكثر المقالب التلفزيونية وحشية»، بروح رحبة. اذ رافقته انتقادات حادة وصلت الى حد المطالبة برفع دعاوى قضائية على ادارة البرنامج لما تسببه من «اذى نفسي ومعنوي» على «الضحية» والمشاهد على حد سواء. كما تقدم البرلماني المصري مصطفى بكري بطلب احاطة موجه الى رئيس الحكومة شريف اسماعيل ووزيرة الاستثمار، داليا خورشيد، لإيقاف برامج المقالب المذاعة على القنوات الفضائية خلال شهر رمضان، وتحديداً برنامجي «رامز بيلعب بالنار» و»ميني داعش». وفي جولة سريعة على البرنامج على موقع «يوتيوب» يتضح أن غالبية التعليقات التي تناولت الفيديوات جاءت سلبية منددة بفكرة البرنامج، خصوصاً بعد الحلقة الأولى التي كانت ضحيتها الممثلة المصرية هبة مجدي، بعدما عمل فريق العمل على إقناعها بالذهاب الى دار المسنين لمساعدتهم ضمن اطار «عمل الخير». وإثر وصولها، يقوم احد العناصر بتخويفها باستعمال الأسلحة، ليقتل أمامها المضيفة التي استقبلتها فور وصولها. وتستمر الحلقة على مدار 20 دقيقة من الرعب المتواصل التي تعيشه الضحية. وعلى رغم أن بعض التعليقات اعتقدت أو «أملت» بأن تكون الممثلة مشتركة معهم في الإعداد للمقلب، الا أن هذا لا يعني أنه من المبرر بث افكار كهذه على شاشاة التلفزة، خصوصاً أن عالمنا العربي لم ينته من تضــميد جراحه من آثار الصور الدموية التي بثــها التنظيم الأب «داعش». ولم تنته عملية استثمار العنف عند السلبية، اذ استعمل برنامج «الصدمة» الذي يُعرض على قناة «أم بي سي» العنف في الترويج لقضية اجتماعية من بلدان عربية مختلفة. ومع أن العنف المستعمل في هذا الحالة كان ايجابياً هادفاً، الا أنه لا يمكن اخراجه من السياق العام نفسه. فأن يضرب رجل والده في الشارع رغبة في رؤية رد فعل الجمهور، هو عنف صوري أيضاً، ولو أنه في حجم لا يمكن قياسه بالبرامج السابقة الذكر.
مشاركة :