هذه مجموعة متنوعة من الهمسات الرمضانية ذات القيمة الإيمانية والفائدة العلمية بقلم الأستاذ الدكتور وليد مُحمَّد عبدالله العَلِيّ أستاذ الشريع والدراسات الإسلامية بكلية الشريعة - جامعة الكويت وإمـام وخطيب المسجد الكبير بدولة الكويت. إنَّ حقيقة مُراقبة الله تعالى: أن يُؤدِّي العبد شرائع الله تعالى كأنَّه يراه، وهذا المشهد إنَّما ينشأ من كمال إيمان العبد بالله تعالى ومعرفة أسمائه الحُسنى وصفاته العلى، فمن راقب الله تعالى مُستحضراً ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه: فإنَّه يعبد الله تعالى كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه: فإنَّه يعلم أنَّ الله سُبحانه يراه؛ وهُو فوق سمواته مُستوياً على عرشه، يتكلَّم بأمره ونهيه، ويُدبِّر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه، وتُعرض أعمال العباد وأرواحهم عند المُوافاة عليه، فيشهد هذا العبد: ربًّا حيًّا؛ وإلهاً قيُّوماً؛ سميعاً بصيراً؛ عزيزاً حكيماً، آمراً ناهياً، يُحبُّ ويُبغض، ويرضى ويغضب، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يُريد، وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيءٌ من أعمال العباد ولا أقوالهم ولا بواطنهم، بل يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصُّدور، فيشهد ذلك كُلَّه بقلبه، فمشهد الإحسان: هُو أصل أعمال القُلوب كُلِّها، لأنَّه يُوجب الحياء والإجلال والتَّعظيم والخشية والمحبَّة والإنابة والتَّوكُّل والخُضوع والذُّلَّ لله سُبحانه وتعالى، ويقطع الوسواس وحديث النَّفس، ويجمع القلب والهمَّ على الله تعالى، فحظُّ العبد من القُرب من الله تعالى: على قدر حظِّه من مشهد الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصَّلاة؛ حتَّى يكون بين صلاة الرَّجليْن - المُتجاوريْن في صفِّ الصَّلاة - من الأجر والفضل وتكفير السَّيِّئات: كما بين السَّماء والأرض، وقيامُهما وركوعُهما وسُجودُهما: واحدٌ، وهذا المشهد العظيم: يستدعي توكُّل العبد على الله تعالى في تحقيقه، كما قال الله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. من مشاهد العُبوديَّة: شُهود العبد: منَّة الله تعالى عليه، وتقصيره بين يديه، فيشهد منَّة الله سُبحانه؛ حيث امتنَّ عليه وأقامه في هذا المقام؛ وأهَّلَه له ووفَّقه للقيام بقلبه وبدنه في خدمته، فلولا منَّة الله سُبحانه: لم يكن شيءٌ من ذلك، قال الله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. فالله سُبحانه وتعالى هو الذي جعل المُسلم مُسلماً؛ والمُصلِّي مُصليًّا، كما قال الخليل إبراهيم عليه السَّلام: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾. وكان من دُعاء إبراهيم عليه السَّلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾. فالمنَّة لله تعالى وحده في امتنانه على عبده؛ وجعله قائماً بطاعته، فكانت هذه المنَّة من أعظم نعم الله تعالى على عبده، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾. فهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، والله سُبحانه وتعالى هُو الذي امتنَّ على عباده وحبَّب إليهم شُهود هذا المشهد، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾. فكُلَّما كان العبد أعظم توحيداً: كان حظُّه من هذا المشهد أتمَّ، وفي هذا المشهد من الفوائد: أنَّه يحول بين القلب وبين العُجْب بعمله، لأنَّه يشهد أنَّ الله سُبحانه وتعالى هو المانُّ به المُوفِّق له الهادي إليه، فيُشغله هذا المشهد: عن الاشتغال برُؤية عمله والإعجاب به وأن يفخر به على النَّاس، فهذا المشهد يرفع عمل العبد من قلبه؛ فلا يُعجب به، ويدفعه من لسانه؛ فلا يمنُّ به ولا يتكثَّر به، وهذا شأن العمل المُتقبَّل المرفوع إلى الله تعالى، ومن فوائد هذا المشهد أيضاً: أنَّه يُضيف الحمد إلى وليِّه ومُستحقِّه وهُو الله تعالى وحده، فلا يشهد العبد لنفسه حمداً، بل يشهد الحمد كُلَّه لله تعالى؛ كما يشهد النِّعمة كُلَّها منه والفضل كُلَّه له والخير كُلَّه في يديْه، وهذا من تمام التَّوحيد، فلا تستقرُّ قدم العبد في مقام التَّوحيد: إلا بعلم ذلك وشُهوده. اللهُمَّ ابْسُطْ علينا مِنْ بَرَكَاتِكَ ورَحْمَتِكَ وفَضْلِكَ ورِزْقِكَ، اللهُمَّ إنِّا نسْألُكَ النَّعيمَ المُقيمَ؛ الذي لا يحولُ ولا يزولُ. ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنةً؛ وفي الآخرة حسنةً؛ وقنا عذاب النَّار. الأستاذ الدكتور وليد العلي w-alali@hotmail.com
مشاركة :