من الظواهر الخطيرة التي تتعلق بالأمن الإنساني، ظاهرة الاتجار بالبشر، وهي وإنْ كانت قديمة تتعلق بالعبودية والرق وامتهان الكرامة الإنسانية والتمييز بين البشر، لكنها بفعل العولمة وما حصل من تطور كبير في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات ووسائل الاتصال، أصبحت تهدد الأمن الإنساني، سواءً في البلدان المصدرة لها أو بلدان الممر والمعْبر، أو في بلدان المستقر. وهناك وجه آخر لها برز خلال السنوات الأخيرة، بما له علاقة بالإرهاب الدولي، سواء عمليات تجنيد الإرهابيين أو تغذية الإرهاب من خلال التجارة غير المشروعة بالأشخاص أو الأسلحة أو المخدرات أو غسل الأموال أو التزوير أو غير ذلك. وتعني ظاهرة الاتجار بالبشر: الانتقال غير القانوني من بلد إلى آخر بهدف المتاجرة غير المشروعة والحصول على الربح في الأغلب، واحتمال الاستغلال اللاحق للذين يتم انتقالهم من بلد إلى آخر عن طريق التهريب، أي أنه بتعريف اتفاقية الأمم المتحدة لعام 2000 والتي دخلت حيز التنفيذ العام 2003: تجنيد للأشخاص بنقلهم أو ترحيلهم أو إيوائهم أو استقبالهم، سواء التهديد بالقوة أو باستخدامها، أو غير ذلك من أشكال القسر والاختطاف والاحتيال والخداع لغرض الاستغلال. وقد ألحقت هذه الاتفاقية بشأن الجريمة المنظمة، ثلاثة بروتوكولات، هي: الأول: بروتوكول الاتجار بالأشخاص، وخصوصاً النساء والأطفال. والثاني: بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين، عن طريق البر والبحر والجو. والثالث: بروتوكول مكافحة الصنع غير المشروع والاتجار بالأسلحة النارية. وقد شهد العالم خلال العامين 2015 و2016 هجرة لم يسبق لها مثيل، شملت فئات واسعة من السكان لأسباب تتعلق بالحروب والنزاعات المسلحة وانهيار سلطة القانون والحصار والاحتلال، لا سيما من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد أثار هذا الأمر خلافات حادة بين تركيا واليونان من جهة وعدد من البلدان الأوروبية،، مثل النمسا وهنغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وبعض دول شمال أوروبا، بشأن التزاماتها إزاء حقوق اللاجئين بشكل خاص، وحقوق الإنسان بشكل عام، الأمر الذي طرح بقوة موضوع جريمة الاتجار بالبشر. وتعتبر هذه الجريمة معضلة قانونية وحقوقية وأخلاقية بامتياز، إضافة إلى كونها قضية إنسانية أساساً، خصوصاً تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وانعكاساتها على السلم المجتمعي والدولي، لا سيما ما يتعلق بالأمن الإنساني، ذلك أن الاتجار بالبشر هو جريمة تنتهك بصورة صارخة كامل منظومة حقوق الإنسان، والقيم والتعاليم الأخلاقية والدينية. وتعمل العديد من العصابات الدولية اليوم لاستثمار الثغرات في القوانين الدولية والوطنية لمواصلة الكسب غير المشروع والحصول على المزيد من الأرباح والإفلات من العقاب، على حساب الجانب الإنساني والأخلاقي، وهو ما شخصه مؤتمر فيينا لعام 2008 لمكافحة الاتجار بالبشر والمؤتمر الإقليمي المنعقد في عمان 2010، وقد صدَق على الاتفاقية الدولية 180 دولة عضو في الأمم المتحدة، وذلك حتى عام 2015. إن جريمة الاتجار بالبشر، إضافة إلى الجرائم المنظمة الأخرى التي تمت الإشارة إليها هي جرائم ما فوق قومية وعابرة للقارات، وهي شكل مستحدثٌ من أشكال المافيا الجديدة، كما أشار إلى ذلك فرناندو أساور المدعي العام الإيطالي في مؤتمر دوكان المتميز الذي انعقد في السليمانية في كردستان العراق عام 2012. وكانت حالة سرقة الأعضاء البشرية من الضحايا الفلسطينيين الذين يتم اغتيالهم من جانب السلطات الإسرائيلية التي أسهم في كشفها الصحفي السويدي دونالد بوستروم، فضيحة دولية بكل معنى الكلمة، وهي جريمة دولية ترتب مسؤوليات على عاتق الحكومات والمجتمع الدولي لمعالجة آثارها ووضع حد لها، فضلاً عن إنزال أشد العقوبات بمرتكبيها. إن الاتجار بالبشر هو نشاط سري عابر للدول والحدود والقارات ويشمل النساء والرجال والأطفال، في ظروف عمل لا إنسانية بالنسبة للرجال، وظروف أقرب إلى الاسترقاق أو العبودية بالنسبة للنساء، إضافة إلى الاستغلال الجنسي، وبالنسبة للأطفال استخدامهم للتسول أو كباعة متجولين، واستغلالهم جنسياً في الكثير من الأحيان، إضافة إلى محاولات تجنيد بعضهم في صفوف الإرهابيين، وفي ميليشيات أو جماعات خارجة على القانون، كما فعل داعش، فضلاً عن معاملته اللاإنسانية مع المسيحيين والإيزيديين، ولا سيما النساء وغير المسلمين عموماً، بل والمسلمين الذين لا يقرون بمنهجه التكفيري. وقد أشار تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009 والموسوم تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية إلى الوسائل التي يستخدمها التجار الذين يقومون بالاتجار بالبشر مختلف الأساليب لجني الأرباح، سواءً كان ذلك عبر الخطف أو القسر أو احتجاز الاستحقاقات المالية، أو الإغراق بالديون، أو منع الأشخاص من التواصل مع الآخرين، أو فصلهم عن عائلاتهم، أو مصادرة جوازات سفرهم، أو تعنيفهم وإذلالهم أو تهديدهم بالسجن أو الترحيل. وهذا كله يؤدي إلى انعدام الأمن الشخصي وخصوصاً للفئات الضعيفة، إضافة إلى المجتمع ككل. ولا شك أن الاتجار بالبشر يقوض عملية التنمية لأنه يساهم في تعميق حالة الفقر وعدم المساواة، من خلال الرشا والفساد المالي والإداري، ويساهم في ارتفاع نسبة الجريمة المنظمة بمختلف فروعها. ولعل مناسبة الحديث عن الاتجار بالبشر، هو ورشة عمل متخصصة عقدها المركز العربي لتطور حكم القانون والنزاهة، في بيروت بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية، وتم تقديم 12 بحثاً لخبراء دوليين في ميادين الجريمة المنظمة بأنواعها. عبد الحسين شعبان drhussainshaban21@gmail.com
مشاركة :