بين آونة وأخرى أصحو من النوم على كابوس مزعج يتمثل في تجرؤ أحدهم على إضافتي، وبدون استئذان ولا إرادة مني، إلى قروب واتسابي ثقافي. لأجد نفسي أمام وابل من الرسائل التي تحتاج إلى ساعات لقراءتها. وبضغطة زر أعلن انسحابي من القروب وأنسى تلك الدعوة التي تشبه الهدية المسمومة. وبعدها بفترة أفاجأ بمدير القروب ذاته وقد أضافني، رغما عني، إلى قروب جديد وهكذا. وكل ذلك يتم تحت عناوين صارخة وجذابة: مختبر المعارف، المناقدة الجدد، عقول مستنيرة، الفكر الحر، إلى آخر تلك العناوين الخادعة، الموحية بأني على وشك الانضمام إلى نخبة من المفكرين الاستثنائيين، الذين يقدسون المعرفة. معظم المنتمين والمتحمسين للقروبات الثقافية أعرفهم إما بشكل شخصي ومن خلال لقاءات مباشرة أو عبر قراءاتي لما يكتبونه. والغريب أن معظم أولئك عندما أقابلهم في ملتقى ثقافي أو ذات صدفة في مقهى يتهربون من أي حوار في الثقافة، بحجة أنهم تشبعوا من الحديث حول الثقافة وشؤونها. والواقع غير ذلك فمعظهم لم يتحدث في حياته عن أي فكرة أو قضية ثقافية ذات قيمة. كما تشهد على ذلك منتجاتهم وتسكعهم في الملتقيات الأدبية. فهم أشبه ما يكونون بالنباتات البلاستيكية في حديقة المشهد الثقافي. ولذلك تظهر حماستهم الفائضة للنقاشات في قروبات الواتس أب. فهي لا تكلف العضو إلا التحيات والتعليقات العابرة النيئة التي توحي بأن وراء ذلك الكلام المجاني ذات ثقافية متعالية. الإنسان كائن اتصالي بطبعه. وكلما ظهرت وسيلة اتصال جديدة طوّعها لتعزيز قدرته ورغبته في التواصل مع الآخرين. وعليه، يمكن القول ان الواتس أب يشكل قفزة نوعية في هذا الحقل. إلا أنه ليس المحل المناسب، ولا الأداة الصحيحة لطرح قضايا كبرى تحتاج إلى سجالات مباشرة، وعرض أدلة منطقية، والاستشهاد بمرجعيات. بمعنى أن الدرس الأدبي لا يمكن أن يكون موضوعا تتناهبه الآراء المستعجلة، وتبتذله التعليقات الجاهزة. إذ لا يمكن قراءة نص شعري إلا في جو من التبتل والتأمل. ولا يمكن وعي أي مفهوم أو مصطلح معرفي في عجالة الواتس أب. فهذا يحتاج إلى شروحات طويلة. وهو الأمر الذي لا تتيحه مضائق الواتس أب. يغضب المغرمون بتشكيل القروبات الثقافية في الواتس أب عندما نواجههم بهذه الحقائق. ويعتبرون أن حضورهم المكثف في عدد من القروبات يؤمن لهم التواصل والتقارب والتعرّف على تجارب وأخبار بعضهم البعض. كما يؤكد بعضهم على أهمية القروبات للمثقف حتى يُعرّف الآخرين على منجزه ويسوّق نفسه. وهذا حق. ويحتمل وجهة نظر هي محل اهتمام واحترام. إلا أن الاندماج الكلي في تلك الموجة من التواصل الواتسابي لها كلفتها أيضا، على أعصاب ووعي ومنجز المثقف الذي يقضي وقتا طويلا في مجاملة زملائه أو التعليق على منجزاتهم وأخبارهم. ناهيك عن انحراف معظم القروبات عن هدفها بعد أيام من انطلاقتها وتحولها إلى فضاءات للمزاح واستحضار الصور المضحكة وهكذا. إن خطر هذه القروبات على المثقف يتجاوز فكرة استهلاكه في الهوامش والمجاملات إلى حافة تحوّل القروب ذاته إلى شلّة ثقافية ذات طابع افتراضي. حيث يمكن أن يُصاب ويتشبع بكل أمراض الشللية المعروفة كالتعصب للجماعة والنميمة الثقافية والانغلاق وإدمان تعاطي الأفكار المستهلكة ذاته وهكذا. والأخطر أن بعض تلك القروبات تتقن حيل الترويج لتضخيم الخدعة الثقافية. حيث ينشر أحد العاملين في الصحيفة، والذي يصادف أنه أحد أعضاء القروب، خبرا عن سجالات حامية الوطيس في القروب هذا أو ذاك. فيما يشبه الدعاية الرخيصة لمنتج لا قيمة له. وذلك لإيهام اللامنتمين لهذه الشلة بأنهم يخسرون الكثير من المعرفة والسمعة والمكانة لأنهم لم يتشرفوا بالانضمام إلى القروب. وهذه مجرد حيلة من منظومة حيل تبدأ بالرهان على ضم أسماء ثقافية من العيار الثقيل ولا تنتهي عند كذبات التواصل مع أبرز الوجوه الثقافية في العالم العربي. الادعاء والتضليل والأوهام هي زاد تلك القروبات. ومعظم المنتمين لها لا قيمة ولا إسهام ثقافي لهم في مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر. بل يمكن القول إنهم مصابون برهاب الحوار، حيث يتجنبون تقديم أنفسهم كمثقفين، بقدر ما يقدمون أنفسهم كمهتمين بالشأن العام. ويكفي إطلالة عابرة على حسابات معظم المثقفين في السعودية لنقف على ذوات هشة مدّعية وخاوية، الثقافة هي آخر اهتماماتهم. فالروائي لا يريد التحدث عن الرواية. والشاعر لا يعرف كيف يتكلم عن آخر طرازات الكتابة الشعرية. والناقد لا يتجرأ على طرح أي قضية أو حتى وجهة نظر في المنتجات الأدبية لئلا يفقد متابعيه وهكذا. في الوقت الذي يتبارى فيه هؤلاء على الثرثرة في قروبات مغلقة ومنغلقة على نفسها.
مشاركة :