فمحمد المرزوقي يتعامل مع المرأة، وكأنها مجسم جمالي فاتن، له حيز لكن لا تحدده الحدود خياليًّا، فهو يلاحظ حركة العباءة التي تلبسها المرأة ويدقق في تفاصيل هذه الحركة من خلال اصطدام الريح بها، مما أثار فيه هذا الموقف التركيز على أشياء تتعلق بالمرأة، لكنها لا تدخل في تفاصيل كيانها الداخلي، فهو يراها من الخارج «عباتك، دفاك، خطاك» واختصر كل هذه التفاصيل بقوله «الغصون المثمرة» التي منحت الشاعر كل هذا التعلق بجسد المرأة والهيام في حركاتها: وتتحركين العطر يصهل في عروقي كل ما رنت خلاخيلك وتستحيل الأرض تحتك راقصة، وتهتز لأجلك عودها ! كل ما رنت خلاخيلك صار القمر يبكي مثل كاهن حزين لا يكاد هذا الهاجس أن يبتعد عن الشاعر، وهو كون الإحساس تجاه المرأة ملفوفاً بعطر الصهيل المعبر عن حاجة الجسد للجسد ورغبة الانغماس فيه، والتلذذ بكل تفاصيله بدءاً بالخلاخيل التي تُرى كلما سارت هذه المرأة أمامه أو مرت في خياله، أي إنه يجد لذته فيها, تلك اللذة التي تحركت من خارج جسد الأنثى، من خارج محيطها المجسم أمامه أو المتحرك أمامه، بدءاً بحديثه عن عباءتها التي تلف جسدها مروراً بخطواتها على الأرض وصولاً إلى خلاخيلها التي «ترن» كلما سارت وتحركت، فهذه العوامل التي فجرت لذته, ظهر أثرها من خلال قوله «وتتركين العطر يصهل في عروقي» كإيحاء على صوت اللذة الذي أحدثته هذه المرأة في كيان الشاعر وجعلته يتصور أن الأرض ترقص شوقاً مثله حينما تدب خطواتها وهي تسير فوقها أي شكل ترغبين إنك تحبيني عليه تفرشين الثلج في أكثر أوضاعك جفاف وأتساقط جمرة، جمرة عليه ! أسكب أنفاسي على هذي الحديقة ويطول عنق الورد باللثم ويتيه ! تنتخبني شفتك سلطان هذا الليل يامر وينهي بكل اللي يبيه أرمي عظامي على هذا الرخام سجادة تشكي تعبها في هذا المقطع يرفع الشاعر الغطاء، ويتحدث عن المرأة وكأنها قطعة من الحلوى أو قطعة من الرخام، فمرة يتمدد فوقها ومرة أخرى يتلذذ بها، وعلى هذا يطالبها باختيار شكل الحب الذي تريده أن يمارسه معها «أي شكل ترغبين إنك تحبيني عليه» لأن المسألة لديه مسألة عرض وطلب، لا حب متبادل بين روحين يتجاوز متطلبات الجسد والمادة، فهو يحب أن يمارس دور الرجل الشرقي الذي يجيد فن السقوط في هذا المجال بكل أنفاسه عليها وهو يمارس دور السلطان الحاكم المتحكم بشفاه هذه المحبوبة التي لا دور لها إلا أن تُسحق ويرمي كل جسمه عليها، لتكون بعد ذلك «سجادة» يتلو فوقها آيات حبه. هذا الانغماس بالماديات، لا سيما في تعامل الشاعر مع المرأة، والنظر إليها كمشروع للاستمتاع لا كقلب للعيش فيه، لا يكاد يكون بهذا الشكل عند فهد دوحان الذي كان في الغالب يهرب أو يتهرب بأدق عبارة، يتهرب من الحديث عن كينونة الحب لديه بالجنوح وراء الاستنـزاف الوصفي للحالة لديه، والتي لا تدل على شيء واضح بقدر ما تشير إلى تمنيه الاستقرار في وجدان المرأة أو دخولها في ملكوته، لكنه يشطح عن الوصول لهذه الفكرة، وذلك بالاتكاء على أدوات وصفية تخلق لديه حالة من الفتور. ياللي معلمتني كل شي بااللي أنتي أقرب من يدي وأبعد علي من كل شي! من يوم غابت ضحكتك ما ظل فعيوني ضوا ولا ظل بي غصن ندي ولا ظل بين الناس حي!! هنا يسعى الشاعر لتبيان مدى تعلقه بالمحبوبة التي تشكل له كل شيء، بدءاً من تفاصيل المكان «أقرب من يدي» وصولاً إلى «ولا ظل بالناس حي!!» أي إنها بالنسبة له كل الأماكن وكل الناس، فهي الحياة بما فيها، وذلك أن غياب ضحكتها جعله لا يرى أي شيء منيرا في هذا الكون فهو يرى الكون من خلالها ويشعر بتفاصيل المكان من خلالها كذلك. وشلون أبلقى للزمن ثاني أو ألقى للشعر غيرك معاني أو أقول إني عرفت بهالحياة أحد له مثل قلبك قلب له مثل حزنك حزن له مثل فرحك فرح له مثل مثلك مثل له مثل شكلك شكل له مثل ملحك ملح له مثل حربك حرب له مثل صلحك صلح هنا جازف الشاعر بالتشبيه المتكرر «له مثل» الذي أخرجه من نشوة الحالة اللحظية للحب, وجعله يستطعم هذا الاستنـزاف في التشبيه والتوصيف والتكرار, حيث شكل تداخل هذه الأحوال الثلاثة نوعاً من الثقل, غير أنه في المقابل كان يريد من هذا التكثيف تبيان صعوبة أن يجد لهذا المحبوب مثيلاً يمكن وصفه فيه أو إيجاد حالة تقارب فيما بينه وبين هذا المحبوب, لهذا انطلق بهذا الاندفاع « له مثل...» التي راحت تتوالد أمامه بطريقة استنـزافية، وكأنه يعيش حالة من الهستيريا الغرامية التي دفعته للدوران في هذا التكرار حول نفسه, وكأنه لا يريد الخروج من هذه الحلقة التي أحكم إغلاقها على نفسه، وذلك أنه كمن يشعر بنشوة هذا الدوران، لكنه في مكان آخر يتضح مدى هيامه بالمرأة المحبوبة بشكل أبعد مما هو موجود في المقطع السابق كثر ما هو تمادى في سهر ليلك ! شرب أكثر من اللازم هواك وما قدر يثمل سوى ما يستثيره من مواويلك معاه ويسألك دايم: أغني لك ؟ تنتقل الحالة معه في هذا الكلام من وصف وتشبيه لإيضاح حاله إلى التجذر في العلاقة التي جعلته يصل حد الانتشاء و السكر «شرب أكثر من اللازم هواك» حيث حوله السهر إلى التلذذ في الجسد ما جعله هذا الوضع يتخيل هذا الحب بالخمر الذي منحه درجة النشوة العاطفية، مما خلق لديه هذا الجو الاحتفالي رغبة في الطرب والغناء «أغني لك». لقد كان الشاعر هنا يكاد يقترب من الإيحاءات الجنسية، غير أنه لم يسر بمحاذاتها، إذ كان يلمح لهذه الأجواء لكن من بعيد، فقد كان أقرب إلى الروح، إلا أن حالة التمرجح بين الاتجاهين هي السمة الواضحة عند دوحان في هذا التناول، وهذا أسلوب يغلب على تجارب الشعراء الحداثيين حيث تأخذ الصورة الذهنية للمرأة في نصوصهم هذا الجانب، وهو جانب المزج بين رغبات الروح ومتطلبات المادة, إلا ما ندر في هذه التجارب. وهذا التوجه المختلف بين شاعر وشاعر يفتح نافذة لا بد من الاطلاع عليها، وهي أن هذه التجارب لا تنطلق من رؤى نمطية للحياة والمرأة، ولا سيما المرأة في هذا الجانب، إذ تتلاشى النظرة النمطية الغالبة في الذهنية العربية التقليدية من حيث كون المرأة وسيلة للاستمتاع والمتعة لا إنساناً يشارك الآخرين هذه الحياة.
مشاركة :