ما بين عشية وضحاها أصبحت المملكة المتحدة محور اهتمام العالم بأسره على مدار الأسبوعين الماضيين، بدايةً من اغتيال عضو مجلس العموم عن حزب العمال جو كوكس وهي في جولة دعائية في دائرتها الانتخابية وانتهاءً بتصويت غالبية، وإن بسيطة، من الناخبين البريطانيين لصالح خروج بلادهم من عضوية الاتحاد الأوروبي. ولكل من الحدثين أهميته ودلالاته في شكل منفرد، ولكن لهما معاً أيضاً دلالات مشتركة لا تخلو من أهمية وانعكاسات، وفي الحالتين فإن هذه الأهمية وما يرتبط بها من دلالات وانعكاسات لا تقتصر فقط على المشهد البريطاني، ولا هي حتى مقيَّدة بحدود الساحة الأوروبية وحدها، بل تنطلق بتأثيراتها على الصعيد الدولي ككل. فاغتيال جو كوكس جاء ليمثل دليلاً جديداً على مدى خطورة تصاعد قوة اليمين المتطرف في أوروبا عموماً، وفي أوروبا الغربية، أو ما يعرف تقليدياً بـ «أوروبا القديمة»، في شكل أكثر تحديداً، وفي المملكة المتحدة على وجه الخصوص، وهو تصاعد يحذر منه ومن عواقبه المأسوية، بل والكارثية، الكثير من العقلاء داخل وخارج القارة الأوروبية منذ فترة مضت، بخاصة على مدار السنوات القليلة الماضية. فهذا اليمين قاد أوروبا إلى تصعيد، بدا في الكثير من الأحيان مفتعلاً ومتعمداً وصادراً عن سوء نية وقصد أو عن جهل ونقص فهم، في مواجهات، بدت هي بدورها أيضاً مصطنعة، وأدت إلى التأثير السلبي على التعايش السلمي بين مكونات الشعوب الأوروبية في ظل التقسيم ما بين «أوروبيين أصليين»، و»أوروبيين وافدين». واعتبر البعض أن هذا اليمين مقصور في عدائه وتعصبه وتطرفه على مواجهة المهاجرين أو ذوي الأصول العرقية أو القومية أو اللغوية أو حتى الدينية المختلفة عن «ثقافة» الدولة والمجتمع الأوروبي المعني. وظل هؤلاء يعاندون لسنوات طويلة ويرفضون الإقرار بأن مخاطر مثل هذا اليمين تجتاز بكثير حدود العداء للمهاجرين أو الدفاع عن «نقاء» ثقافي أو عرقي أو قومي أو لغوي، لتصل إلى تهديد وحدة النسيج الوطني لتلك البلدان والشعوب الأوروبية والتأثير سلباً على حالة التناغم المجتمعي والانسجام الوطني الموجودة فيها، بما في ذلك المخالفين في الرأي لهذا اليمين وآرائه ومواقفه، حتى لو كان هؤلاء من السكان الذين تمتد جذورهم في مجتمعاتهم إلى قرون مضت. وأظهر اغتيال جو كوكس أن هذا اليمين المتطرف، أو على الأقل قطاعات لا بأس بها منه، لا تكتفي بالعمل السياسي أو بالدعاية الإعلامية أو بالتعبئة الشعبية، أي بآليات العمل السلمي في سياقها العام، بل إنه ينحاز إلى خيارات ممارسة العنف والإرهاب، ليس فقط بحق «الأجانب» من مهاجرين أو لاجئين، أو ذوي الأصول الأجنبية من المواطنين أو من الحاصلين على الإقامة الشرعية، بل أيضاً بحق المخالفين في الرأي من «المواطنين الأصليين»، وفي مقدمهم أنصار الاتجاهات الأخرى، بخاصة تلك الداعية إلى التسامح والقبول بالتعددية الثقافية باعتبارها عنصر قوة ومصدر ثراء للمجتمع وليست مظهر تشرذم أو نقطة ضعف. وما كان الاعتداء على حياة جو كوكس سوى مجرد حلقة في سلسلة طويلة من الاعتداءات التي استهدفت رموز اليسار والليبراليين، ليس فقط في أوروبا، بل وعلى امتداد العالم بأسره، وبنى مخططوها ومنفذوها والمدافعون عنها والمبررون لها دفوعهم على أسس شن حملة للترويج للكراهية وبث العداوة والبغضاء وممارسة التحريض على ممارسة العنف والإرهاب، وهو أمر بدا متزايداً في مداه وحدته خلال السنوات الأخيرة، وأدى في حالات عدة إلى تعكير أجواء السلم الأهلي داخل العديد من المجتمعات الغربية والأوروبية، سواء على الصعيد الوطني أو المحلي. وبينما بدا اليمين المتطرف للكثير من المراقبين المتهم الرئيسي في واقعة اغتيال جو كوكس، فإن نتيجة استفتاء 23 حزيران (يونيو) 2016 أرجعها عدد من المحللين إلى مواقف عدد من الرموز والتيارات والقوى داخل صفوف اليسار البريطاني. وتبدو المفارقة هنا أنه بينما كان يتم تحميل فصائل من اليسار البريطاني مسؤولية اختيار غالبية الناخبين البريطانيين خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، فإنه في حالة بلدان أوروبية أخرى، بخاصة في أوروبا الغربية أو «القديمة»، تتصدر أصوات من صفوف اليمين القومي مشهد دفع شعوبها في اتجاه الخروج من الاتحاد الأوروبي، سواء بتنظيم استفتاءات مماثلة لما تمَّ في المملكة المتحدة، أو من خلال وسائل أخرى بحسب الحالة الدستورية والوضعية التشريعية والنظام القانوني السائد في كل دولة، وكذلك بحسب خصوصية الظروف الثقافية والاجتماعية وسياق التطور التاريخي لكل مجتمع. وفي الغالبية الكبرى من تلك الحالات، نرى الطرح الخاص بالدعوة إلى الحفاظ على خصوصية المجتمع من مختلف جوانبها وبكافة أبعادها ومعانيها ومضامينها، وكذلك التخوف من آثار ما يطلق عليه البعض «أخطار محو الهوية الثقافية» المتميزة و»الطابع القومي» لكل دولة، بما يشمله ذلك أيضاً من موروث تاريخي وحضاري خاص بكل شعب، وذلك حتى بما يغطي الجوانب اللغوية والعادات والتقاليد الاجتماعية وما شابه ذلك. ولكن هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية لا يجب التقليل من أهميتها، بل إن البعض يضعها في الصدارة من حيث عوامل القلق من استمرار الوجود ضمن قطار التكامل الأوروبي، ولا ينحصر ذلك في الدول الأصغر نسبياً من جهة الوزن الاقتصادي داخل الاتحاد الأوروبي، بل يشمل أيضاً بعض الدول الأكبر من هذه الجهة، وهو ما تشهد به الحالة البريطانية، حيث بدا واضحاً للعيان أن خبرات الفترة السابقة عزَّزت المخاوف على مصير الاقتصاد الوطني من المنافسة التي يُنظّر إليها على أنها غير متكافئة من قبل مؤسسات اقتصادية تابعة لبلدان أوروبية أخرى تجاه المؤسسات الاقتصادية الوطنية، حتى داخل حدود الدولة، بما يهدد بقاء ووجود تلك المؤسسات الوطنية ويخل بتوازن السوق المحلية. كما أفرزت تجارب السنوات الماضية مخاوف جدية، وبخاصة مع الاتساع المستمر لعضوية الاتحاد الأوروبي، في شأن النظر إلى أوضاع سوق العمل داخل كل دولة أوروبية وتأثيرات العمالة الوافدة من بلدان أوروبية أخرى على العمالة الوطنية ومزاحمتها لها والحلول محلها في كثير من الأحيان. وفي انتظار ما تأتي به الأيام من تطورات في شأن هذين الموضوعين المتصلين في بعض أبعادهما والمستقلين في أبعاد أخرى، تبقى أسئلة مشروعة مفتوحة على الاحتمالات كافة، ومنها مستقبل التعامل الأوروبي الفردي أو الجماعي مع تصاعد حدة التشدد والعنف من قبل فصائل من اليمين الأوروبي المتطرف، بخاصة مع بزوغ شعبية بعض فصائل ذلك اليمين في عدد من الدول الأوروبية، وارتباط ذلك بكيفية معالجة تداعيات الاستفتاء الأخير في المملكة المتحدة على إفراز حالة من الحراك لدى الداعين إلى الخروج من عضوية الاتحاد في بعض المجتمعات الأوروبية، وكيفية رسم معالم الاستقطاب في شأن هذه المسألة على خريطة الحدود التقليدية لليسار واليمين في أوروبا، ثم تأثيرات كل ما تقدم على مسيرة الاتحاد الأوروبي ككل وعلى خطوات البناء الأوروبي ومستقبله في توقيت تتعاظم فيه التحديات الخارجية المحيطة بالقارة من جهة وتتضاعف فيه المشكلات الداخلية التي قد لا تستطيع بلدان القارة فرادى أن تواجهها أو تتعامل معها من جهة أخرى. * كاتب مصري
مشاركة :