الانتماء هو النمو والترعرع في مجتمع ما على بقعة جغرافية ما، فيرتبط الإنسان بالمكان وبوجوده عليه، يكتسب ثقافة وديانة وقيم من يعيشون على هذا التراب، وما يتبعه من مشاعر اعتزاز وفخر؛ ولكنه يقوى أو يضعف فكريا ووجدانيا حسب ما يقدمه المجتمع لهذا الفرد من عوامل الجذب.. وأهمها حرية التعبير والتفكير والعدالة الاجتماعية والمشاركة الفعلية لا الصورية في تقاسم الخيرات، ما يشجعه على الانتماء بل التضحية من أجل هذا المجتمع وبقعة الأرض التي يجتمع عليها وهو مانسميه اليوم بالوطن. يقولون سابقا ومنهم علماء مثل (وليام غلاس واضع نظرية الاختيار)، اهتموا بهذا الشأن لأن الأفراد هم من يعملون على استرضاء المجموعات أو المجتمعات التي ينتمون إليها، التي يرغبون العيش فيها إلا أن هذه النظرية في رأيي لم تعد صالحة لهذا العصر، وإني أرى اليوم أن على المجتمعات وتوجهاتها اجتماعية كانت أم سياسية أو غيرها العمل على استرضاء أفرادها، وعلى سعادتهم وتقاسم الخيرات كل الخيرات معهم وبشكل يرضيهم تماما، على مبدأ العدالة والمساواة ؛ لكي يشعروا بالانتماء والاعتزاز والافتخار بها.. وإلا فقدتهم لانتماء آخر بالتأكيد سواء في مجتمع جديد لأن أفق الهجرة من مجتمع لآخر أصبحت واسعة، أو لانتماء فكري أو وجداني آخر، لأن أفق تغيير ذات هذه المجتمعات المنغلقة التي لا تسعى إلى سعادة أفرادها أصبح واردا بل قائما. فالفضاء الفكري العالمي أصبح واحدا يتنفس منه الجميع، وحركة التواصل بين المجتمعات أصبحت دائمة ومستمرة وعميقة وفي كل الاتجاهات، فلا يمكن إيقافها أو التصدي لها أو حتى تعطيلها جزئيا، لذا لم يعد ممكنا الاحتفاظ بالامتيازات المعتَقة السابقة والتمتع بها دون إشراك الشريك الآخر، وفي عكس ذلك سيعمل أفرادها على تقويضها بالضرورة، فعصر الانفراد بخيرات مجتمع ما ولت مع انكشاف ستار آخر الحواجز بين المجتمعات وإطلال الجميع على الجميع من أوسع الآفاق، وازدياد حركة تواصل المجتمعات أصبحت تتزاحم في نفس المكان لتجذب العقول والأفراد، كما أن ملهمي الحرية والمثل العليا أصبحوا من خارج الأسوار أيضا .. فلم يعد كل الأفراد يهتمون فقط لحاجاتهم الضرورية من مأكل وملبس ومسكن (رغم الترويج لذلك من قبل مغتالي العقول والانتماء لإشغال الناس بحياة بدائية سطحية هامشية)، بل يتطلعون لحاجات أعظم وعلى رأسها الحرية والعدالة والتقدير والمساواة والانتفاع المشترك والعادل والمشاركة في القرار والشعور بالقوة في مجتمعهم بما يؤدي للسعادة والراحة النفسية والاطمئنان. هذا لا يتم إلا في بيئة تحترم الفرد وتشجعه وتتقاسم معه خيراتها وإلا فبدل أن تزرع فيه وتثبت فيه قيم الانتماء، فإنها تخلعها منهم وهذا ما يدفعه إليه قادة أو حكومات لا تقيم وزنا لمشاعر الناس وحاجاتهم وتطلعاتهم الذين هم شركاء له، بل منهجها الاستهتار بالذوق العام واغتصاب العقول وتسفيه الأفكار والاستئثار بكل مقدرات البلاد بالقوة، وفي أفضل الحالات محاولة التوفيق إعلاميا فقط بأن الدولة ساهرة على مصالح الناس فهي في خدمتهم، وفي الحقيقة هي من تهيمن على كل المقدرات وتسرفها، بل تحاول تغييب كل العقول النيرة التي تكشف ظلامهم ما يساعد على تنفير هذه العقول والمشاعر وتهجيرها لانتماء آخر قد يكون معاديا للانتماء الأول، وإن بقت في مجتمعها فلن تستقر وبتراكمها تحدث هزات وزلازل مجتمعية تؤدي إلى تقويض ركائز الأول لكي تعاد صياغة قواعد المشاركة من جديد.
مشاركة :