من رحم الأزمات.. تولد الفرص!!

  • 7/3/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

نحن بحاجة لمشروع إنقاذ عقول أجيال جديدة من حالة الارتهان لمقولات واجتهادات وقراءات أصبح كثير منها أيقونات فكرية تغذي نزعة الغلو والتطرف وما تقود إليه من كوراث.. وهي ترمي خلف ظهرها كل معنى إنساني وقيمي وأخلاقي.. ثمة حقيقة تكشفها مسارات التطور البشري العابرة للحروب والأزمات والكوراث، التي مرت بها البشرية، إذ تستلهم الفرص من رحم الأزمات.. أي أن ثمة مساراً لابد من عبوره لمن يريد النجاة، ناهيك عن تمكين فرص جديدة للحياة. الصراع سمة أزلية في الكون، والمدافعة بين البشر جزء من ضرورات الحياة لكي لا تفسد.. ويؤكد التنزيل الحكيم حتمية هذا الصراع وأزليته (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). تحيط بنا أزمات وتتراكم تبعات وآثار، ونعايش حوادث وارتكابات شنيعة.. وتلك ليست سوى مؤشرات على خلل فادح في الوعي والفكر واحتباس في الذهن واستسلام للسائد والبقاء في حضن المفردات القديمة.. وإذا ما تركت المعالجة على النحو القديم أو ظلت تراوح مكانها في دائرة مغلقة لا تبرحها.. فإن الأزمات ستعيد إنتاج نفسها بل وتراكم مصدر الخلل.. وهل ثمة خطورة أكبر من التراخي والتسويف وطمر الوعي بادعاءات لا تسندها بينات، ناهيك عن حقائق أصبحت تحت ركام كبير من التجاهل.. والأخطر أن تتعطل ملكة التفكير إلى درجة اجترار مقولات تآكلت فاعليتها وتوارت تأثيراتها. تحيط بنا اليوم مخاطر تعدد مصادرها، منها الخارجي ومنها الداخلي.. منها ما هو استهداف لكيان ودولة ومجتمع.. سواء عبر مواجهات مباشرة وحاضرة في مشروع الصراع في المنطقة، ومنها ما تفرزه قضايا الداخل والتي لا يمكن فصلها عن الخارج، ولكنْ أيضا جزء كبير منها مصدره طبيعة ومسارات وتطورات الحياة بالداخل واستحقاقاتها. ويبقى السؤال كيف يمكن مواجهة هذه الاستحقاقات بما تحمل اليوم وما تلقي به من ظلال كثيفة على حياة مجتمع؟ ولأن القضايا كثيرة ومتعددة الأبعاد.. سأكتفي بواحدة، إذ ثمة من يدور في دوائر مغلقة دون محاولة الانعتاق منها لاكتشاف مسارات أخرى تكشف أبعاد الخلل وتستهدف خلق فرص الحل بديلاً عن البكاء الطويل على اللبن المسكوب. قبل أيام ليست بعيدة، انشغل المجتمع بحادثة بشعة، وانشغل معها الكثيرون من حملة الرأي في محاولة الفهم لم تخلُ من صراع بات كالعادة يكرس حالة من الاصطفاف المعدي.. كانت القضية، كيف يُصنع الاختراق الفكري في عقول غضة لتتحول لأداة قتل.. حتى لأقرب الناس دماً ورحماً... وبديلاً من بحث قضية لم تعد حالة وحيدة بل رأينا منها خلال العامين الماضيين العديد من الحوادث المؤلمة وإن كانت أكثرها قسوة وألماً.. تحول الجدل إلى منافحة بين فريقين.. بين من ينافح عن تراث فقهي لا يمكن تبرئته.. وبين من يدينه ويراه مسؤولا عن الكارثة التي قادت لهذا الجنون الذي غادر معالم الرحمة والإنسانية بل وصار بغياً وظلماً وارتكاباً شنيعاً. وإذ يتحول السجال إلى حالة مدافعة عن التراث الفقهي وبين مستهدفيه، تختفي فرص البحث عن مشروع يعيد صياغة فكر جيل على نحو يجعله يدرك أن أعظم ما أصاب من سبقوه انهم وقعوا ضحية تناقضات في الفهم والتأويل، وهناك من أسلم عقله وقلبه لغيره ممن يستهدف التقويض ولا شيء غير التقويض. وهنا يتوقف السجال، حتى نعود مرة أخرى إثر كارثة أو حادثة شنيعة أخرى، الحركة في دائرة مغلقة لن تقود لاكتشاف الفرص وانبثاق مشروع إنقاذ.. وهو يجب أن يكون مشروع إنقاذ.. وإلا فقد نرى أنفسنا بعد فترة قد تقصر أو تطول أمام طوفان جارف مدمر.. في علوم الطبيعة، تحتبس بعض النماذج المعرفية عن تفسير ظاهرة ما، طالما بقيت تلك المحاولات لتفسير تلك الظاهرة ضمن إطار نموذج عاجز، حينها لابد من البحث عن نموذج مختلف يعد أحيانا قفزة نوعية في النظام المعرفي.. وهذا ما حدث عند مغادرة قوانين الحركة لنيوتن.. لتبدأ ملامح علم جديد عنوانه ميكانيكا الكم. ومن يتوقف عند التراث وحده رغم كل مافيه من قراءات تدعم مقولات التطرف والإرهاب في دعواتها وجنوحها.. مثله مثل من يحاول أن يبرئه من هذا الخلل الذي أصاب العقل المسلم.. التي درجة التناقض.. كل شعوب الأرض لديها تراث مؤلم، من يتجاهل الحروب الدينية في أوروبا، من يتجاهل الحروب الصليبية، من يتجاهل البشاعات في تاريخ البشرية من قتل وتهجير وتدمير وعدوان الإنسان على الإنسان.. ولذا من يريد أن يلتقط الفرصة في خضم هذه الأزمات الموحشة، فعليه أن يتعرف أن ثمة تراثاً لهذه الأمة فيه الحسن وفيه الرديء.. فيه من الخطايا كما فيه من الحسنات.. ولا عصمة لإمام أو فقيه أو مجتهد مهما علا قدره.. وان التاريخ سلسلة من الارتكاس والنهوض.. وان الظلم لم تخلُ منه مرحلة من مراحل البشرية. أما من يحرك مشروع الإنقاذ ويستلهم الفرصة، فلا أراه إلا بتعاون السلطة والنخبة، وكل مشروع لا تحمله سلطة وتلتف حوله النخبة.. مشروع ناقص مبتور وسيتعرض في بيئة للوأد لأن ثمة من يقاومه ويستهدفه. تقوم ملامح المشروع على أكتاف سلطة مؤمنة بالمشروع تلتقي مع نخبة مؤمنة بالتغيير، كما حدث في كل الحركات الكبرى في التاريخ التي أثمرت وأينعت. السلطة تحمي المشروع والنخبة المؤمنة بأهمية التغيير عليها ان تواجه استحقاقات مشروع فكري كبير، يعيد قراءة النص المقدس على أسس لا تجعله رهينا لاجتهادات الأولين، ولكن ضمن القواعد الكبرى التي أقرها الشرع لحفظ الضرورات الخمس. وقبل هذا وبعده يجب أن تحظى هذه النخبة من علماء وباحثين بالثقة في وسط اجتماعي لم يعد يمنح ثقته ببساطة. ألسنا بحاجة لفقه جديد، لا يلقى بتراث السابقين خلف ظهره، ولكن لا يجعل نفسه أسيراً لذلك الفهم والتأويل مهما علا قدر صاحبه، ولا يتردد عن إدانة الخلل في تلك الأفهام والارتكابات.. وإلا وقعنا في صنمية جديدة تناقض أعظم مبدأ وركن في الإسلام. نحن بحاجة لمشروع إنقاذ عقول أجيال جديدة من حالة الارتهان لمقولات واجتهادات وقراءات أصبح كثير منها ايقونات فكرية تغذي نزعة الغلو والتطرف وما تقود إليه من كوراث.. وهي ترمي خلف ظهرها كل معنى إنساني وقيمي وأخلاقي. وكما نحن بحاجة إلى مشروع قراءة جديدة للنص، تستنقذ أجيالاً من وحل التطرف والقراءة القاتلة.. وتلك مهمة ذلك المشروع الذي سيواجه بالكثير من التحفظ من قبل حراس التراث دون تمييز وفحص.. فنحن كذلك بحاجة اليوم لاستنقاذ عقل جيل حاضر متأثر ولن يكون ذلك إلا من خلال الدفع باتجاه حوار مجتمعي عميق.. القمع الفكري كارثة عطلت مقدرات الأمة عن الاستجابة لضرورات العصر وفهم مقتضياته.. والارتهان لرؤية وحيدة لن يعزز أكثر من التوقف والجمود ناهيك عن الفرز والإقصاء.. وهذه ثماره بين أيدينا! هناك بعض جيل يرتمي في ظلال العزلة، وهو فريسة سهلة للتوظيف والتجنيد.. وبقدر ما تكون الضمانات الحقوقية في التعبير عن الذات والفهم حاضرة ومحترمة ستضرب هذا الانغلاق الذهني قبل أن يتحول إلى مفاهيم تدور في حلقات ضيقة عنوانها العمل السري ووسيلتها ملء عقول غضة بتصورات سهلة ونهائية وحتمية.. لنفاجأ بعد حين بهذه الكوارث والجرائم الكبرى. الأفكار القاتلة لا تظل سجينة للأبد في عقول معتنقيها إنها تتحول إلى ضحايا وأشلاء.. وعندما تخرج للنور وتقع في مواجهة فكر قوي مؤسس فإنها تتضعضع، فالحق أحق أن يتبع.. وعندها سيدرك المتورطون بتلك الأفكار كم كانت الخطيئة كبيرة، والمؤامرة أكبر.. وأن الهدف هم ومجتمعاتهم وما تبقى لهم من مقومات. aalqfari@gmail.com

مشاركة :