والله إنه لشيء مؤلم ومحزن ومستنكر ما قام به الشقيقان التوأمان من قتل والديهما جحودا وعقوقا. بحيث لم يرحما كبر سنهما ولا شيبتهما. والعجيب أن يتذرع هذان السفاحان لجريمتهما الشنعاء التي تجردا فيها من كل معاني الإنسانية بالتأسيس على فقــه البراء والولاء في الإسلام. ولست أدري أي فقه هذا؟ البراء ممن؟ والولاء لمن؟ قال تعالى: "وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم". أجل كل مسلم يؤمن بهذه الآية العظيمة، ويعمل بمضمونها وحكمها ودلالاتها، ولكن الإشكالية القائمة هي في الفهم الصحيح لدلالات هذه الآية، وفي الترسيم الدقيق لحدود البراء من الآخر، وفي التحديد الدقيق لموضوع ومادة البراء من الآخر. يقول الدكتور حامد بن أحمد الرفاعي في كتابه (شركاء لا أوصياء – الفصل السابع): إن دائرة العقيدة والاعتقاد هي المسؤولة بشكل أساس عن مسألة البراء والولاء.. باعتبار أن أهل كل ديانة لهم معتقدهم الخاص بهم والمعتقدات هي أساس الاختلاف والتناقض بين الأديان، فكل أهل ديانة يرون أن ما هم عليه من الاعتقاد هو الحق الذي يدينون به إلى ربهم وإلههم الذي يؤمنون به، ويعتقدون بصفاته وأسمائه وأحواله، وعلى هذا الاعتقاد تقوم في نفوسهم قاعدة البراء مما يعتقد به الآخر، ممن ليسوا على ما هم عليه من الاعتقاد، ومما يدين به الآخر من صفات الله وأسمائه وأحواله على خلاف ما يؤمنون ويعتقدون، ونحن المسلمين شأننا في ذلك شأن كل أتباع الأديان .. فلنا اعتقادنا ولنا تصورنا الخاص بنا تجاه ربنا وإلهنا .. إما إن كان ذلك من حيث صفاته أو أسمائه أو أحواله جلّ وعلا .. أو من حيث غيرها من قضايا الاعتقاد، وهذا الاعتقاد هو أساس البراء عندنا مما يعتقد به غيرنا مما يتناقض مع مقومات اعتقادنا.. وهــذه مسـألة جوهرية في دين الإسلام لا تحتمل المجاملة، ولا المساومة ولا المداهنة، ولا تخضع لكل المغريات أو المكرهات: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته!) سيرة ابن هشام. قال تعالى: (قل يا أيها الكافرون" لا أعبد ما تعبدون" ولا أنتم عابدون ما أعبد" ولا أنا عابد ما عبدتم" ولا أنتم عابدون ما أعبد" لكم دينكم ولي دين) سورة الكافرون. أجل فالبراء في مسألة العقيدة والاعتقاد واضح وجلي وحازم عندنا مع من هم على خلاف اعتقادنا، ولذا نحن المسـلمين نؤمن ونعتقد أن دائرة العقيدة مغلقة الصلة بيننا وبين الآخر "لكم دينكم ولي دين"، وهذا شأن الآخر تجاهنا كذلك، فهو كذلك لا يجامل ولا يساوم فيما يعتقد ويؤمن، لأن مسألة الاعتقاد هي أساس الاختلاف والافتراق والتناقض بين أهل الأديان.. والمسلمون في ذلك على قلب رجل واحد ولله الحمد .. والبراء هنا هو براء من الاعتقاد الديني الذي يعتقده الآخر فحسب، وليس براء من إنسانيته ودوره في الحياة، أو بعــبارة أخـرى هو براء من الانتماء العقدي، وليس براء من الانتماء البشري، أو قل إن شئت براء ولاء وليس براء أداء وتعاون: (فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون). يقول فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن بية في كتابه الإرهاب: "والحقيقة أن البراء مفهوم عقدي يتعلق بالولاء في العقيدة والدين والملة وهو الذي يكفر فاعله وينصر خاذله"، ويقول في موطن آخر من كتاب الإرهاب "يكون البراء من الأعمال وليس من الأشخاص"، ويدلل على ذلك بقول الله تعالى: "فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون".. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، صحيح البخاري. فالبراء إذًا براء وجداني عقدي مما يعتقد الآخر ويعمل، وليس براء من انتمائه البشـري، أو من التعاون معه في أدائه الحضـاري الحياتي، فنحن والآخـر شركاء في الأداء الحضاري، وشركاء في النهوض بمهمة التكليف الرباني للناس جميعًا، "عمارة الأرض وإقامة الحياة"، لذا فإننا نؤمن أن دائرة المشترك مع الآخر تأخذ بالانفتاح والانفراج بعد دائرة العقيدة والاعتقاد.. فهناك مساحة مشتركة وواسعة للتعايش والتعاون والتفاهم والتنافس في رحاب دائرة الشريعة.
مشاركة :