لم يحظ مخرج من دول العالم الثالث باحتفاء نقدي ومكانة بارزة في السينما العالمية، كما حظي بها المخرج الإيراني عباس كيارستمي، الذي توفي الاثنين في العاصمة الفرنسية باريس عن عمر 76 عاما. وانعكس الاحتفاء النقدي بسينما كيارستمي في عشرات الكتب التي كتبت عنه بأكثر من لغة ومنها العربية، وفي المقدمة من هذه الكتب، كتاب الفيلسوف الفرنسي جان كلود نانسي "the Evidence of Film"، إذ وجد في أفلام كيارستمي تجسيدا لنظريته عن الفن الذي ترفض المفهوم السائد في اعتباره تمثيلا للعالم الواقعي.بين نظرتين Image copyright Reuters Image caption المخرج مارتن سكورسيزي يسلم كيارستمي جائزة في مهرجان مراكش عام 2005 ما الذي قاد الى كل هذا الاحتفاء بمخرج قدم من الشرق الأوسط ومن بلد عالم ثالثي وظل متجذرا في ثقافته المحلية، وما الذي خلق ظاهرة كيارستمي النادرة في التاريخ السينمائي؟ أمر نحاول هنا أن نبحث في ما نراه جذوره ومسبباته. أشعر مثل شجرة، شجرة لا تشعر أن عليها واجبا في أن تفعل شيئا ما للأرض التي جاءت منها. شجرة تحمل الثمار والأوراق والبراعم لا تحتاج لأن تشكر الأرض" التي نمت فيهاالمخرج الإيراني عباس كيارستمي ومثل هذا البحث يتموضع في المسافة بين نظرتين: النظرة العالمية إلى منجز كيارستمي التي جسدها احتفاء عدد من كبار النقاد العالميين به، والنظرة المحلية التي تفكك هذا المنجز في سياق جذوره ومناهله المحلية. أي بين ما يصفه الناقد الفرنسي سيرج توبيانا بـ "النظرة الحرة " إلى العالم على الرغم من القيود تعيش فيها بلاده، أو ما يسميه الناقد الاسباني، البرتو إيلينا، في كتابه عنه "فن التقية"، في إشارة إلى المفهوم المستمد من الممارسة الدينية لدى شيعة إيران، وهي "النظرة" (Gaze) ذاتها التي تتجاوز حدود الرؤية إلى التأمل التي يتوقف عندها نانسي بوصفها المحرك الاساسي لإبداع كيارستمي؛ وما يراه زملاؤه الإيرانيون فيه من نظرة تعيد زرع الصوفي في قلب الواقعي واليومي عندما يسمونه "المتصوف الواقعي". لقد نجح كيارستمي، المولود في طهران عام 1940، عبر تلك النظرة العميقة إلى الوجود في أن يصنع بصمته الأسلوبية الخاصة التي تركت ظلالها على عموم الانتاج السينمائي في بلاده، ونحتت لها موقعا خاصا في المشهد السينمائي العالمي، وعززتها مواهبه المتعددة التي تمتد في حقول فنية ومعرفية مختلفة بين السينما والفوتغراف والشعر والرسم وغيرها. لقد درس كيارستمي الرسم والتصميم في جامعة طهران في ستينيات القرن الماضي، وعمل في عالم الإعلان رساما للملصقات وصور خلال أربعة أعوام في الستينيات نحو 150 إعلانا تلفزيونيا، كما عمل مقدمات الافلام، وزين برسومه كتب الاطفال. Image copyright BBC World Service Image caption اقام كيارستمي عددا من المعارض لصوره الفوتغرافية وفي السبعينيات أسهم في تأسيس وحدة الانتاج السينمائي في "مركز التنمية الفكرية للاطفال والمراهقين"، وقد اسهمت هذه لاحقا في انتاج عدد من أبرز أفلام السينما الإيرانية لاحقا كفيلم بهرام بيضائي الشهير "باشو" وفيلم أمير نادري "العداء"، كما كان لها اثرا كبيرا في أن تتحول موضوعة الطفولة والممثلين الأطفال إلى موضوعة أثيرة في السينما الإيرانية وفي سينما كيارستمي نفسه. لقد حمل فيلم كيارستمي القصير المنتج لهذا المركز "الخبز والزقاق" عام 1970 الكثير مما سيصبح ملامح أسلوبية لاحقا في سينماه: من النهل من تقاليد الواقعية الجديدة، وجماليات اللقطة القريبة والتصوير خارج الاستوديو في المشهد الطبيعي الى البساطة في التعبير، وعالم الاطفال وبراءته المحاصرة بالنفاق الاجتماعي وقيود عالم الكبار، وما يتيحه هذا العالم من حفر في التجربة الأولى المباشرة للإنسان، ومفاهيم الخطأ والصواب وأصل ما هو أخلاقي ولا أخلاقي بعيدا عن تشويش الثقافة والأعراف. وهو نهج عمقه في السبعينيات مع فيلمي "التجربة" 1973 عن قصة حب بريئة لطفل يعمل في محل مصور فوتغرافي مع صبية من طبقة أخرى و "مسافر" 1974، الذي يقدم مغامرة طفل في بلدة صغيرة يستميت من أجل حضور مباراة بكرة القدم في المدينة.ثلاثية كوكر Image copyright Reuters Image caption ترك كيارستمي ظلاله على عموم الانتاج السينمائي في بلاده، ونحت له موقعا خاصا في المشهد السينمائي العالمي لقد ترك كياروستمي أكثر من أربعين فيلما توزعت بين الأفلام الروائية والوثائقية والأفلام الدرامية القصيرة، وقد لفت انتباه العالم إلى فنه في عقد الثمانينيات مع انطلاق أول أفلام ثلاثيته التي عرفت باسم "ثلاثية كوكر"، وهو اسم قرية إيرانية كانت موقع أفلامه الثلاثة فيها، بدءا من تحفته السينمائية "أين منزل صديقي" عام 1987، حيث يعود إلى موضوعته الأثيرة عبر منظور طفل في الثامنة من عمره للواجب، وهو هنا ايصال دفتر زميله الذي نسيه لديه كي يكتب واجبه المدرسي الذي هدده المعلم بمعاقبته إذا لم ينجزه، وهنا يصطدم مفهوم الطفل برياء وتعقيدات عالم الكبار في وسط المفارقات التي يمر بها من أجل الوصول الى صديقه في القرية المجاورة. ويستثمر كيارستمي جماليات المنظر الطبيعي في الريف الإيراني ليقدم حكايته التي يجسدها عبر ولعه الخاص بالتفاصيل الصغيرة وبلمسات انسانية ساحرة. ويعود كيارستمي إلى هذه القرية ثانية في فيلم "الحياة ولا شيء سواها" عام 1992، وفي الفيلم الثالث " تحت أشجار الزيتون" حيث يتفقد في الفيلم الثاني مصير الطفلين الذين مثلا في فيلمه وحال القرية بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة مطلع التسعينيات الذي يتيح له فحص موضوعة أثيرة لديه هي العلاقة بين الحياة والموت: القطبين الذين تتأرجح بينهما أفلامه، فينظر إلى هذه الثنائية بنزوع صوفي واضح يستمده منه فلسفة الشاعر الصوفي عمر الخيام، كما يوضح كياروستمي في حديث له عن تجربة القرب من الموت في مشاهدة آثار الزلزال "لم أره بهذا القرب من قبل. فهمت حينها فلسفة الخيام بشكل أفضل. تنص فلسفته على أنك لكي تُقدر الحياة يجب أن تقترب من الموت أكثر، وأنا حينها لم أر الموت، بقدر ما اكتشفت الحياة". ويعود كيارستمي في الفيلم الثالث ليعمق خيطا سرديا من الفيلم الثاني، مقدما شكلا سينمائيا يتجاوز الحدود بين الأنواع الفنية كالعلاقة بين الوثائقي والخيالي او الدرامي، نوعا من "Docufiction"، فاحصا من خلاله مفهوم العلاقة بين الفن والواقع، بجعل فيلمه السابقين ومكانهما الواقعي موضوعا لفيلمه الاخير، وفي سياق قصة حب في القرية ذاتها بطلها عامل بناء سبق أن عمل ممثلا في فيلمه، فينظر بنزعة نقدية إلى فهمه ونظرته الشخصية للفن والواقع، أي أننا إزاء فن شارح يكشف عن آليات انتاجه، "ميتاسينما" بلغة ما بعد الحداثة. وكان قد دشن هذه النهج في المزاوجة بين حدود الوثائقي والدرامي أو الواقعي والخيالي مطلع عقد التسعينيات في فيلمه "لقطة قريبة" (كلوز اب)1990، الذي يصور محتالا يقدم نفسه لعائلة على أنه المخرج الإيراني "محسن مخملباف" الذي يريد اختيار بطلة لفيلمه منهم. وقد صنف هذا الفيلم ضمن أفضل 50 فيلم في تاريخ السينما في استفتاء نقدي اجرته مجلة "سايت أن ساوند" عام 2012. Image copyright AFP Image caption منحت الممثلة الفرنسية جوليت بينوش جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان 2010 عن دورها في فيلمه "نسخة طبق الأصل" وتوج كيارستمي بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي، عن فيلمه "طعم الكرز"، الذي يقدم فيه قصة رجل يريد الانتحار وتقضي خطته أن يأخذ جرعة كبيرة من الحبوب المنومة لينام في حفرة على أن يجد شخصا يساعده ويقوم بدفنه بعد موته، فيتجول بسيارته في ضواحي المدينة بحثا عن هذا الشخص ويخوض حوارات مع أناس مختلفين عن الموت والحياة، وهم يحاولون اقناعه بنبذ فكرة الانتحار وحب الحياة بأدلة مثل تذوق طعم الكرز. يواصل كيارستمي في هذا الفيلم اسلوبه الاختزالي "Minimalist" فمعظم مشاهده تظل في حدود الحوارات المصورة في مكان محدود هو السيارة، واعتمدت جمالياته البصرية على اللقطات العامة التي توحي بمسافة بين المشاهد وموضوعه وتدفعه إلى التأمل به، مستعيرا مبدأ التغريب وكسر التماهي العاطفي مع موضوع العمل الفني، وهو التكنيك الذي نرى ذروته في مسرح برتولد برخت الملحمي. ويمد ذلك الفهم إلى العلاقة بين شريطي الصوت والصورة في الفيلم، ففي الوقت الذي نرى فيه الشخصية عن بعد نسمع صوتها قريبا، ويمد هذا الاستخدام إلى طريقته الخاصة في تصوير الحوارات التي تميل إلى عدم استخدام اللقطات المتبادلة للمتحاورين، بل التركيز على أحد طرفي الحوار الذي يظل في قلب الصورة حتى وهو يستمع الى كلام الشخص الثاني."الحياة ولاشيء سواها" Image copyright AP Image caption صور فيلمه "مثل عاشق"، وهو فيلم من انتاج فرنسي ياباني مشترك، في اليابان عام 2011 ويواصل كيارستمي هذا النهج في فيلم "عشرة" 2002 مع تلك المرأة التي تقود سيارتها في شوارع طهران وتخوض حوارات مع شخصيات مختلفة فيها، حيث يكرس نهجه هنا في المزاوجة بين الروائي والوثائقي، باستخدامه لممثلين غير محترفين وتصويره في الأماكن الواقعية بعيدا عن الاستوديو واستخدام أسلوب الفيلم الوثائقي في تصوير فيلمه الروائي. لقد صور مشاهد فيلمه هذا بوضع كاميرتين رقميتين على جانبي السيارة وثقت ما يجري في داخلها، وهو الأسلوب ذاته الذي اعتمده مساعده سابقا المخرج المعروف لاحقا جعفر بناهي في تصوير الأخير فيلمه "تاكسي". ويمكن أن نميز بوضوح هنا بين أفلام كيارستمي المدينية والريفية، ففي الوقت الذي تغرق شخصيات الأخيرة في جمال المنظر الطبيعي وتبدو سعيدة مندمجة مع روح الطبيعة طافحة بتفاصيل العلاقة معها، تختنق الشخصيات المدينية، التي يختارها الغالب من الطبقة الوسطى الايرانية، في أزماتها وعالمها الكئيب والمشوش، كما هي الحال مع بطل "طعم الكرز" الساعي إلى الانتحار وبطلة هذا الفيلم في ابحارها وسط الواقع الاجتماعي والسياسي في إيران الذي يتكشف بشكل غير مباشر عبر حواراتها مع الشخصيات المختلفة. ولم يتحمس الكثير من النقاد لأفلام كيارستمي الأخيرة التي صورت خارج إيران، والتي بدا فيها مفتقدا لعنصر أساسي من ابداعه والذي ينبع من فهمه العميق للمكان وتفاصيله الصغيرة ودرجات ظلاله والوانه، كما هي الحال مع فيلم "نسخة طبق الاصل" الذي صوره في إيطاليا مع الممثلة الفرنسية جوليت بينوش(منحت على دورها فيه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان 2010) والممثل ومغني الأوبرا البريطاني وليم شيميل في أول ادواره السينمائية. وفيلمه "مثل عاشق" وهو فيلم من انتاج فرنسي ياباني مشترك صوره في اليابان عام 2011، تجري أحداثه في طوكيو عن فتاة موزعة بين كونها طالبة علم اجتماع وعملها غانية في نفس الوقت، فضلا عن توزعها بين صديقها الشاب، واستاذ جامعي متقاعد أرمل تخوض معه علاقة عابرة على مدى يومين. وتحمل أفلام كيارستمي الأخيرة هذه المفارقة لمخرج يحلو له دائما أن يقارن نفسه بالشجرة التي لا تزهر الا بتربتها "إذا انتُزعت ووُضعت في مكان آخر فإنها قد تنمو، لكن لن يكون لها أبدا العطر نفسه". وتمثل استعارة الشجرة مفهوما أساسيا لفهم فلسفته، فهو لا يكف عن استخدامها في جمالياته البصرية في السينما أو فن الفوتغراف، (الشجرة مفردة جوهرية في أعماله الفوتغرافية) أو كتاباته وتصريحاته. كما تمثل معادلا لحياته في تجذره في بيئته المحلية وعلاقته مع هذه البيئة، إذ يقول في إحدى تصريحاته، في تورية مبطنة بعلاقته بالبلاد التي انجبته وما تعيشه: "أشعر مثل شجرة، شجرة لا تشعر أن عليها واجبا في أن تفعل شيئا ما للأرض التي جاءت منها. شجرة تحمل الثمار والأوراق والبراعم لا تحتاج لأن تشكر الأرض" التي نمت فيها. إن سمة كيارستمي الأساسية، التي وجد فيها الفيلسوف الفرنسي نانسي تجسيدا لنظرته الى الفن، تتمثل في أن الفن لديه ليس انعكاسا أو تصويرا رمزيا لعالم خارجي، بل تجربة وجودية وحسية تغوص في عمقه وتضيف إليه وتثريه، والمعنى الذي تنتجه هو نتاج المشاركة في الوجود وليس تمثيلا منفصلا عنه. هكذا حرص كيارستمي على أن يقدم "الحياة ولا شي سواها"، في حركتها الدائمة وفي جريانها وبتفاصيل طبيعتها التي يكتشف الإنسان معناه من المشاركة في تجربتها الوجودية وبكل ما يضمره وينتجه من عواطف وأحاسيس وأساطير، مقدما الشعر مجسدا في الصور.
مشاركة :