تجاوز معدل التبادل التجاري بين الصين وألمانيا التوقعات كافة، خلال العقد الماضي، فبرلين هي الشريك التجاري الأول لبكين في الاتحاد الأوروبي، بينما تحتل الصين قائمة المستثمرين الأجانب في ألمانيا، ولا شك أن هذا التطور أسهم في صياغة "علاقة اقتصادية خاصة" بين البلدين لسنوات. وبهذا تبدو صورة التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين نموذجا يحتذى به في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية، إلا أن تفاصيل العلاقة تبدو أكثر تعقيدا والتباسا من ذلك، وبقدر ما حملت من آفاق إيجابية للطرفين في الماضي، فإنها تحمل تساؤلات جادة تجاه المستقبل، في ظل تحديات ومخاطر يصعب إغفالها وتجاهلها بالنسبة للجانب الألماني، بل وبالنسبة لموازين القوة الاقتصادية في عالم الغد. وتنطلق القاعدة المؤسسة للعلاقة الصينية الألمانية القائمة حاليا، من مبدأ "التكنولوجيا الألمانية مقابل الأسواق الصينية"، وقد أسهمت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الدول الرأسمالية عالية التطور، وفي مقدمتها ألمانيا منذ عام 2008 في تعزيز تلك القاعدة الحاكمة للعلاقة الاقتصادية بين بكين وبرلين "التكنولوجيا مقابل الأسوق"، لكن الفترة الأخيرة شهدت ملامح قلق ألماني وغربي متصاعد من تأثير قاعدة التعاون الألماني الصيني على قدرة الدول الغربية وتحديدا الاتحاد الأوروبي على التعامل مع الصين مستقبلا. وأوضح لـ "الاقتصادية"، الدكتور ريتشارد بيكون أستاذ الاقتصادات الآسيوية والخبير في الاقتصاد الصيني في جامعة استون، أن الصينيين يشترون شركة ألمانية كل أسبوعين تقريبا، حيث يضع المستثمر الصيني نصب عينيه شراء شركات التكنولوجيا الألمانية، ومن الواضح أن التوتر بين الطرفين ظهر بشكل كبير عندما تقدمت شركة "ميديا" الصينية لشراء شركة "كيوكا" فخر الصناعة الألمانية في مجال الروبوتات بما قيمته خمسة مليارات دولار. ويضيف بيكون أن المبلغ المطروح لشراء الشركة الألمانية ضخم، ولكنه يكشف عن نقطة ضعف في الاقتصاد الصيني، وهي أن الصناعات الصينية الحديثة التي تعتمد على الروبوتات تقع في ذيل القائمة عند مقارناتها بمثيلتها من الدول الصناعية المتقدمة، إذ تسبق ألمانيا واليابان والولايات المتحدة وبريطانيا الصين في هذا المجال، وذلك على الرغم من أن الصين لديها أكبر وأسرع سوق في العالم نموا في مجال الروبوتات، إذ بيع العام الماضي 57 ألف روبوت في الصين بما يزيد 50 في المائة عن العام الذي يسبقه، ولكن بسب ارتفاع أجور العمالة الصينية، ودخول شريحة واسعة من المجتمع الصيني مرحلة الشيخوخة، والتقاعد عن العمل، فإن ذلك يضعف قدرة الصناعات الصينية على المنافسة، ولهذا فإن بكين في أمس الحاجة إلى تحديث هياكلها الصناعية بالاعتماد على مزيد من الروبوتات. وقد اتضح القلق الألماني من مساعي الصين لشراء شركة "كيوكا"، باعتبارها أحد الأصول الرئيسة في الصناعة الألمانية، إذ تسهم في تطوير عديد من القطاعات الأخرى، واتضح هذا القلق من خلل سعي السلطات الألمانية من وراء الستار لإيجاد مشتر محلي وإقناع شركات ألمانية بطرح نفسها بديلا للعرض الصيني. وتقول لـ "الاقتصادية"، الباحثة صوفيا باتريك من معهد الدراسات الاقتصادية الدولية، إن الأمر لا يتعلق فقط برفض السلطات الألمانية بيع "كيوكا"، ولكن هناك ضغوطا أمريكية أخرى من خلف الستار، فقد زار الرئيس الأمريكي باراك أوباما الشركة في نيسان (أبريل) الماضي، إضافة إلى تحذيرات مستترة من بلدان أوروبية مثل فرنسا، من مغبة سيطرة رأس المال الصيني على شركات التكنولوجيا الألمانية، التي تعد المعقل الرئيس للتكنولوجيا الأوروبية، من منطلق أن ذلك سيؤثر حتما في موازين القوى الاقتصادية مع الصين، بل وسيجعل على الأمد الطويل قاعدة "التكنولوجيا مقابل الأسواق" غير ذات جدوى، مضيفة أن استحواذ بكين على تلك الشركة كان سيؤثر سلبا في الأمد الطويل على صناعة السيارات الألمانية أحد المكونات الأساسية في هيكل الصادرات الألمانية للصين بل وللعالم. وكانت شركة "كيوكا" قد حققت العام الماضي مبيعات بقيمة 3.2 مليار دولار وتبلغ القيمة الإجمالية لأسهمها في البورصة 4.3 مليار يورو، فيما تسيطر شركة "ميديا" الصينية على نحو 13.5 في المائة من أسهم الشركة الألمانية في الوقت الحالي. ولا شك أن الرفض الألماني أثار حفيظة الصين، التي لا تتحمل برلين في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها بلدان الاتحاد الأوروبي، أن تتوتر علاقاتها بالشريك التجاري الأبرز، فمنذ عام 2009 تضاعفت الصادرات الألمانية للصين، حيث بلغت العام الماضي نحو 80 مليار دولار، أي ما يوازي خمسة أضعاف الصادرات الألمانية للمملكة المتحدة، ووصل حجم التبادل التجاري بين بكين وبرلين 183 مليار دولار في 2015 بزيادة 5.5 في المائة عن 2014، بحيث سبقت الصين الولايات المتحدة كشريك تجاري لألمانيا. وعلى الرغم من أن إجمالي الصادرات الألمانية للصين لا يتجاوز 6 في المائة من إجمالي صادراتها للعالم الخارجي، إلا أن بعض القطاعات الصناعية الحيوية في برلين مثل صناعة المعدات الهندسية تستوعب الأسواق الصينية 40 في المائة من صادراتها. وأشار لـ "الاقتصادية"، آندروا كلوس من مدرسة لندن للاقتصاد، إلى أن نصف صادرات الاتحاد الأوروبي للصين تأتي من ألمانيا، و25 في المائة من واردات التكتل من بكين تتجه إلى برلين، ولهذا فعلى الرغم من الخلاف الذي سببه موقف السلطات الألمانية من مساعي بكين لشراء شركة "كيوكا" إلا أن الطرفين أظهرا حرصا شديدا على تجنب توتير العلاقات التجارية بينهما، وقد تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن بلاده لن تخوض غمار حرب تجارية مع برلين، لكن هذا لا ينفي أن شهر العسل بين الجانبين يبدو فيه طعم الملح واضحا وفي تزايد. وأضاف كلوس أن النمو السريع للصادرات الألمانية للصين توقف، وخلال عام 2015 تراجع، والشركات الألمانية توسع علاقاتها التجارية مع الاقتصادات الناشئة وبلدان إفريقية جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية، فالصين تعاني تراجع معدلات النمو حاليا، كما أن ارتفاع الأجور في الصين يلعب دورا اقتصاديا مزدوجا فهو يعزز مستويات المعيشة، ويرفع من مستوى الاستهلاك المحلي ويفتح آفاقا للصادرات الألمانية. وأوضح كلوس أن الاستراتيجية الصينية المستقبلية الرامية إلى الاعتماد على الاستهلاك الداخلي كمحفز للنمو، ستضعف، كون بكين إحدى الأسواق الرئيسة للسلع الألمانية، كما سيجعل فاتورة الواردات الألمانية من الصين مرتفعة، نظرا لارتفاع أسعار المنتجات الصينية مستقبلا من جراء ارتفاع الأجور. ورغم أن ملامح الأفق التجاري والاستثماري بين الصينيين والألمان لم تعد تبدو بذات السلاسة السابقة، إلا أن الصعوبة التي تواجه الجانب الألماني حاليا أنهم استثمروا بشدة خلال السنوات الماضية، لتمهيد الطريق للشركات الألمانية للعمل في الصين، وعملية التحول إلى مناطق تجارية أخرى تبدو صعبة في الوقت الراهن، كما أن الجانب الصيني يبدو أنه أدرك تلك التحولات في الموقف الألماني، فبدأ في وضع مزيد من العراقيل أمام الشركات الألمانية التي تعمل في الأسواق الصينية، رغم أن الخطاب الرسمي الصيني لا يزال يعلن عن رغبته في فتح الأسواق أمام الشركات الأوروبية عامة والألمانية على وجه الخصوص.
مشاركة :