لم أحب تلك البلاد الصحرواية البعيدة! أبدا لم أحبها، وقد قضيت من عمري ما يقارب الخمسة عشر عاماً فيها بين دولتين ومدينتين! لن تصدقوني إن قلت لكم إنها بلاد ليس فيها سماء! نعم، ليس فيها سماء! كنت صغيرة جداً ربما في عمر العاشرة، ولم يكن يسمح لنا حتى أن نطل من الشباك المشرف على الشارع، بل إنه كان فوقها مغطى بشبك غامق كثيف، كيف لا؟ وربما أطلت منه جميلة وتسببت بحدوث جريمة ما؟ حتى الشُرُفات لم يكن لها وجود! إنها عالية جداً لا يمكن أن تشاهد منها السماء، فقط سُور حجري عال مقيت كأنها غرفة سجن. كنت دوماً أقول لأمي: أريد أن أشاهد السماء يا ماما، هذه البلاد ليس فيها سماء! كنت أعني ذلك حقاً! كنّا نخرج أحياناً لبعض الحدائق والمتنزهات، لكني لم أستطع أن أشاهد السماء أو أشعر بها ولو لمرة واحدة على حسب ما يتسع عقلي الصغير لذاكرتي الطفولية وقتها. في تلك البلاد كنت دوماً أشعر بالاختناق، بالغربة وبعدم الانتماء، إنها ليست وطني، أنا أريد وطني. كنت أبدأ بالشعور بسماء الحرية ونسمات هواء بلادي عندما نقترب من حدود سوريا ونصل الأردن، في تلك الرحلات الطويلة الشاقة التي كان يقطعها مهجرو سورية براً نحو الأردن؛ ليلتقوا بأسرهم الأصلية فيها، لأنهم بالطبع لا ينتظرهم في سوريا سوى الاعتقال لأنهم أحرار! عند أعتاب حدود الأردن تخرج روحي من قفصها وتحلق في السماء. الآن يا بابا، تصبح السماء زرقاء، إي والله. الآن يا ماما، نبدأ نشاهد أشجار السرو والصنوبر والزيتون. ها هي يا أمي بلاد التين والزيتون. أوووه، لقد وصلنا بلاد الشام، ما أجمل الشام ورائحة الشام الكبيرة الممتدة حتى أطراف تركيا الحبيبة! شام شريف! هناك تكون السماء زرقاء حقاً، سماء تحلق فيها الروح، تربة حمراء تفيض خصوبة وعطاء، وليست أرضا رملية قاحلة قاتلة. سماء الحرية، وأرض الخير، والشام الشريف، قد انتقموا منها وحولوها إلى سماء للحقد وأرض بتربة حمراء من دماء نصف مليون إنسان! وبقيت السماء، وستزول عوادي القهر والاعتداء. ولكنني تساءلت دوماً عن ذلك السر بيني وبين السماء. في تلك الأشهر الطويلة التي فارقني فيها حبيبي ورفيق دربي إلى باريس وطال غيابه وفراقنا، كنت أختنق حرفياً حزنا وقهرا وشوقا لا أجد له حلاً ولا تدبيراً وأشعر أنه يكاد يقتلني، فأخرج وأمشي وأمشي وأمشي وأبكي وأبكي وأبكي طويلاً في هدأة الليل وأحكي للسماء. كانت السماء صديقتي دوماً، وكانت تسمع سري ونجواي ونحيبي ودعائي وتوسلي وبكائي! وعندما أذِنَ الله بأن نلتقي بعد طول الفراق في باريس، كانت السماء أيضا. في الثانية الأولى التي فتحت فيها الطائرة بابها في مطار أورلي في باريس، هبت علي نسائم الحب، استنشقت نسيماً أقسم بالله أني لم أستنشق مثله في حياتي، لا أعرف كيف أصفه، إنه فقط أروع أكسجين استنشقته في عمري. كانت السماء ساحرة جداً، زرقاء جداً، صافية جداً، كانت سماء سماوية حقاً. هناك كان الحبُّ ينتظرني بباقة ورد حمراء، ثم نزهة شاهدت فيها كل معالم باريس في أول ساعة تقريبا، برج إيفيل وقوس النصر والشانزليزيه، ونهر بجوار بيتنا. لا أظن أنه يمكن أن يكون هناك أجمل من ذلك. وحين كان يطول غيابه في المناوبات في مشفاه، كنت أشعر بالغربة والوحشة، فأخرج لأدفع مولودتي في العربة، وأدعو الله وأنا أتأمل سحر تلك السماء، وأشعر في قلبي حقاً أن السماء كانت تدعو الله معي، والأرض كانت تسمع تلاوتي للقرآن وتفرح بها وهي مشتاقة، والأشجار كانت تسبح الله معي، وكذلك العصافير ! وعدنا إلى سوريا رهينة الطاغية، ومنذ اللحظات الأولى للوصول، بعد باريس كانت علامات الارتهان والامتهان والفساد والهوان تطل من أول ضابط جوازات في المطار، إلى منع السفر ومراجعة فروع الأمن والمخابرات والتضييق والتحقيق معي ومع كل من غاب وحضر، وكل أشكال الفساد والإفساد والمافياوية التي عشنا فيها طيلة سنوات ونحن نرفضها ونختنق بها، حتى أذِنَ الله أن يتنفس الصبح وتنفرج السماء بأولى صرخات الحرية لتعلن كسر حاجز الخوف والارتهان والهوان و مولد فجر الحرية. ومضينا في هذا الطريق الصعب الخطر، حتى لم نعد نستطيع البقاء، وأكرهنا كما أكره اثنا عشر مليون سوري على الرحيل، على ذلك الشيء المقيت الذي أدرجونا تحته.. لجوء. لم نكن نسكن في خيم ولا أخذنا قرشاً واحداً معونة من مخلوق، ولكن تصنيفك هو لاجئ. لاجئ: يعني أولاً ان تبحث عن سكن وسط المساكن الباهظة الإيجارات. لاجئ: يعني أن تستنفد كل مدخراتك وأنت تحاول أن تعيش بسلام بعيدا عن الحرب. لاجئ : يعني أن تحاول البحث عن عمل بأي أجر كي لا تمد يدك لمخلوق، فالأفضل أن تموت وأنت تحفر الصخر قبل أن تُذَلَّ لإنسان. لاجئ : يعني أن تفقد أحبتك ووطنك وتتعلق كقشة في مهب الريح، لتكتشف أنك خرجت من سجن الوطن المرتهن إلى سجن اللجوء الممتهن. لاجئ : يعني أن صاحب البلد الأصلي وابن بلدك أنت سيتاجر بحاجتك للعمل والمال والسكن وقضاء المصالح إلى أبعد حد. وأنك ستجد نفسك تغرق ألما وشوقاً وقلقاً، ولن يبقى سوى ذلك الحبل.. الحبل المتعلق بالسماء. وحين كانت كل تلك الحبال البشرية والمادية مقطعة حولي، والشوق لميناء سلامي يجتاحني كزلزال مدمر ويحترق قلبي كالبركان الثائر .. بقي ذلك الحبل متصلاً ويده بقيت ممدودة لي.. ولمن مد له يداً، بل حتى لمن أعرض عنه كان ينادي! وهناك أيضاً كانت السماء الملجأ والصديق والملاذ، وسامعة السر والنجوى والدعاء، والشاهدة على شوق الأحبة ودموع الالتجاء. وفي كل صباح عندما كنت أناجي وتسمعني ، وأراها وتراني وأنا أكابد وأشتاق لصفحة وجه من أحب أو لنظرة من عينيه أو لمسة من يديه، ككل أولئك الممزقين شوقاً وحنيناً وحزناًً على الوطن والأحبة، كانت تقذف في روعي كلمات ساحرة أشعر بوقعها في قلبي كل صباح: أنت أسعد امراة في العالم! نعم، أنا أسعد امرأة في العالم! تستطيعين أن تقوليها وتشعري بها أنتِ و أنتَ أيضاً! ما دام هناك الله، وتلك السماء التي تتنفس فيها الروح، فيحيط القلبَ بالرضا فيهدأ ويطمئن ويسلم لله تسليماً يذهل الغريب والقريب، ليحيل النار برداً وسلاماً. ما دام ويدوم الله بلا بداية و لا نهاية، وإليه في كل ثانية يمكن أن تسافر أرواحنا بلا حدود، فمن يستطيع أن يأخذ مني سمائي؟ ومن يستطيع أن يأخذ من قلبي الله؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :