للمرأة عند عمري الرحيل مساحة من الاهتمام حيث تأتي متشحة بأكثر من لون، وكأنها الحياة بالنسبة له، حيث يجد في أحضانها، ذاته المشتتة، وهي مع ذلك لا تأتيه إلا وهي منغمسة بهموم الحياة والوجع اليومي للإنسان. إنها بعبارة أكثر دقة، تطل المرأة في قصائد عمري الرحيل من منعطفات عدة، لعل من أبرزها الوجع والأمكنة والصوت. تايه مدري من أسأل... واكتفيت أفتش جروحي بزوايا الحزن... وإنتي اللي تكتبين بكلمة عيونك شقاي بكلمتين!!! آه ما أدري كيف أدور عنك... وش أقول... وإنتي بقلبي بقايا رحمة... وصوت... وحنان صرت أفتش في متاهات المكان يطل الشاعر من بوابة الألم، وتمثل له المرأة في هذا الجانب إرهاصاً من إرهاصات العذاب الذي يحرض الشاعر على التواصل والاستمرار معه، لأنه لا يرى المرأة إلا من خلال هذه الزوايا التي تثير في نفسه كل هذا التساؤل، فهو في هذا الاسترسال لا يراها إلا رفيقة درب له في هذه الحياة، معتبرًا إياها امرأة مناضلة بالدرجة الأولى، امرأة مناضلة أكثر من كونها امرأة محبوبة، لهذا يراها ممتزجة بالرحمة والصوت والحنان، حيث إنه مزج الحب بالشقاء، وأضفى على المرأة انعكاسات الجروح والحزن والزوايا. وهذا الوضع هو ما يبرر حالته التي أعلنها في بداية هذا المقطع «تايهٍ مدري من أسأل...» لينطلق بعد ذلك في الحديث عن نفسه، وفي الحديث عنها في ما بعد: الله... هالليلة... مطر... مطر مطر... مطر... كنت تعبان وحزين وانتظر... وشلون هالصوت انهمر... وراح يزرع داخل عيوني قمر... توي عرفت إن الحياة أجمل معاك وأنت في دمي تسيل... وإن الحياة أجمل... بدونك... دامك بدمي تسيل... وماني بحاجة أشوفك... انت مثل النفس أحيا بك في حضور المحبوبة تتداخل الأشياء لدى الشاعر، ويختلط الصوت بالمطر الذي يمتزج بضوء القمر، فالمرأة هنا تعيد تشكيل واقع الشاعر وترتب أوضاعه بدءاً من إحساسه بالمطر وتعلقه بالصوت الذي تداخل مع المطر «هالصوت انهمر» وذلك أنها الحياة بالنسبة له، فحبه لها يسيل بين عروقه، وهي بالنسبة إليه مثل النَّفَس الذي يتردد في صدره. إن من يتأمل نصوص عمري الرحيل، خاصة تلك المرتبطة بموقفه الذاتي المتصل بالمرأة يجد أن الحزن سمة ظاهرة عليه، بالإضافة إلى أنه يلف هذا الحزن بمسحة تأملية فلسفية تجعل الارتحال لديه ارتحالاً عكسيًّا، أي ارتحالاً من الخارج إلى الداخل، لا ارتحالاً من الداخل إلى الخارج، وهو هنا بقدر ما يفتح مسامات التفكير ويحرك الراكد من المشاعر، إلا أنه في المقابل يوحي لمن يقرؤونه بأنه كلما تمددت معه حالة العشق تكوّر حول نفسه وانكمش على ذاته، لهذا فهو يجد في الحزن حياته ويستطعم العذاب في سبيل الوصول إلى المرأة: ياما اكتشفت اني.. توي محاصر فيك يا أعذب أغلالي من وين ما أوديك... تبقى الهوى العالي إن الالتفات لهذا المقطع يؤكد أن الحالة مع الشاعر لم تكن ناتجة من حالة انبثاق مرحلي خاضع للظروف الآنية بقدر ما هي حياة يراها الشاعر تتمدد أمامه على الورق ويتعايش معها بعد ذلك، فالانسجام مع الألم والحزن حالة انبعاث أولية تتملك الشاعر من قبل ميلاد القصيدة، والنص الشعري الجيد لا يكون جيدًا ما لم تكن لدى الشاعر القدرة على توليد المعاني التي لا يعرفها الآخرون إلا من خلاله. يا صاحبي وين أنت... ما حد تعلق بالسراب إلا أنا وإنت... الله ما أبسطنا... والله ما أسخفنا... اثنين مروا من هنا كانوا رماد ونار فيهم جنون صغار... وفيهم جموح كبار... وفيهم جروح كثار... والحزن فيهم بيت... شفافية الشاعر وحسه المرهف في تعامله مع الأنثى جعلاه ينظر إلى الحب بأنه سراب، لهذا نراه يتفنن في جلد الذات ومحاسبتها، ذلك أن الحب ما هو إلا مشروع إنساني لا يمكن أن يكتمل وعلى هذا الأساس، فهو يعيش صراعين، صراع الرغبة المكبوتة بالوصول إلى الحبيب، والصراع الناتج من كون الحب مشروعاً إنسانيّاً غير مكتمل، وهو ما أوضحته العرب بأمثالها الشعبية «الحب يقتله النكاح» لهذا نراه يجلد ذاته«الله ما أبسطنا.. والله ما أسخفنا..» لأنه غير قادر على التحكم بحالته إزاء هذين الصراعين، لهذا نراه يلجأ إلى الجنوح، إلى التأمل للتغلب على الشعور بهذه الحالة. إن قلت (أحبك) هذي ما ترضي (غروري) ولا تروي بي متاهات (الصحاري) ودي أبقى في قواميس (التشرد) كلمة ترضيك... وأخرج عن (مداري) هذا الحزن المسكون في نصوص الشاعر يجعله غير قادر على الشعور بقيمة الأشياء، وأولها الحب، وكأن الحب لديه لا يكفيه للتعبير عن حالته العاطفية، لأن الطموح لديه تجاوز به المعقول، وأدخله مدارات الغرور، لهذا يتمنى أن يبقى هكذا هائمًا في هذه الحياة. إن الوضع اللامنطقي في هذا المقطع يتقاطع مع الحالة الشعورية في نصوص الشاعر، في أن الحب أو الموقف الخاص به مع المرأة، يجد لذته في الحزن، وأن الحزن لديه كاد أن يصل إلى درجة الظاهرة عنده وتجاوز كونه حالة إنسانية عاطفية انتابت الشاعر. لو حاولنا النظر إلى بدر صفوق، لوجدنا أنه يختلف تمام الاختلاف مع عمري الرحيل حيال النظر إلى المرأة، وأنها ليست تلك المثال الخيالي أو الصورة الهلامية التي صورها عمري في نصوصه فأعاد عجنها أكثر من مرة، حيث إن بدر صفوق يقترب من الشكلانيين – إذا أجيز استخدام هذا المسمى- مع خالد قماش كحالة في هذا المجال أو مع المرزوقي أو مع دوحان على سبيل المثال كحالة أقل حدة من قماش في هذه النظرة المادية الشكلانية الصرفة إلى الأنثى، غير أنها لم تكن واضحة من حيث المشاعر الإنسانية الخاصة بقدر ما تنساق هذه النظرة وراء الفهم المرتكز على أن المرأة أبعاد تفصيلية وجسد يحدد ملامحها الأنثوية. إنها الأنثى زوايا هندسية يصرخ الواقف على أبواب الخروج المشرعة لا ااا... هي الأنثى بقايا هندسية لبناء في هذا المقطع كأن الشاعر يقدم تقريراً صحافيّاً عن المرأة، حيث يتعامل معها كخبر لا علاقة له به، أي إنه يقدمه بطريقة موضوعية، غير أن هذه الطريقة تدل على تركيز الشاعر عليها من جانب تأملي، يعتمد عليها حسه الرجولي وطبعه الإنساني أي بعبارة أخرى يرى المرأة من زوايا خاصة بالرجل، ذلك الرجل الذي ينظر إلى المرأة كجسد وتفاصيل، أو ما قاله هو بطريقة مباشرة «إنها الأنثى زوايا هندسية» لكن هذه النظرة لا تحمل أي عاطفة، إذ تعامل الشاعر مع هذا الموقف تعاملاً ظاهريّاً لا روح فيه، أي إنه خال من التغلغل في تفاصيل هذه الأنثى وتعامل معها تعاملاً ظاهريّاً، ولكي تكون الصورة معنا واضحة هنا يتحول الشاعر إلى دور المصلح الاجتماعي لكن بطريقة رمزية رغم مباشرة هذا الأمر للوهلة الأولى.
مشاركة :