مع أن الدافع الرئيسي لرسالة الاعتذار التي قدمها الرئيس التركي أردوغان لنظيره الروسي بوتين هو الأضرار التي لحقت باقتصاد بلاده بسبب العقوبات التجارية التي فرضتها موسكو إثر إسقاط طائرتها، إلا أن هناك دافعا آخر لا يقل أهمية عن ذلك يتعلق بأمن تركيا القومي. فقد توصلت تركيا إلى القناعة بأنها يمكن أن تلعب دورا سياسيا أكبر في المنطقة لضمان هذا الأمن في حالة عودة علاقاتها الطبيعية مع روسيا وإسرائيل، خاصة بعد أن أصبحت روسيا اللاعب الأهم في رسم مسارات مستقبل سوريا. الخطوة التركية أزعجت الإدارة الأميركية التي يبدو أنها قد فوجئت بها. تركيا ترسم هذه السياسات المستقلة عن أبرز حلفائها، الولايات المتحدة، في ضوء تراجع العلاقات معها كما هو الحال مع دول عديدة في المنطقة بسبب سياسات الانكفاء نحو الداخل التي تنتهجها إدارة الرئيس أوباما. روسيا هي الأخرى لها مصلحة مباشرة في عودة العلاقات مع تركيا فقد تضرر اقتصادها بتجميد العلاقات التجارية بينهما ووجدت في الهجوم الإرهابي على مطار أتاتورك واشتراك أحد مواطنيها فيه جرس إنذار يهدد أمنها. روسيا وتركيا بحاجة للتعاون والتنسيق استخبارياً . فيما يتعلق بالحرب على تنظيم داعش، خاصة أن هذا التنظيم سيتحول كلياً إلى النشاط السري بعد أن بدأ يفقد مواقعه على الأرض إثر هزائمه المتكررة في العراق وتراجع دوره في سوريا. كما أنهما بحاجة للتنسيق في مقاربة الأزمة السورية التي باتت مستعصية على الحل، فالتعاون الروسي التركي يعزز حجم الرصيد الروسي في سوريا. خطوة أخرى اتخذتها تركيا في سياق رسم سياستها الجديدة في المنطقة وهي إعادة العلاقات مع إسرائيل التي تضررت كثيرا إثر حادثة السفينة التركية مرمرة، فقد أبرمت أنقرة بعد الاعتذار الشفهي هاتفيا الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لنظيره التركي خلال زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة في منتصف مارس المنصرم صفقة تنهي الخلافات بين البلدين وهي خطوة استقبلها الفلسطينيون ببرود لأنها خلت من الإشارة إلى شرط رفع الحصار عن قطاع غزة. مسألتان تؤرقان تركيا ترتبطان بالأزمة السورية، أولاهما قضية اللاجئين التي سبق لها أن طرحت مرارا فكرة إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية على حدودها الجنوبية لاستيعابهم، فكرة قابلتها الولايات المتحدة في حينه ببرود لصعوبة توفير اللوجستيات لضمان أمن هذه المنطقة، وقوبلت برفض تام من قبل روسيا، تركيا تستطيع طرح المشروع من جديد بعد زوال الحساسية الروسية إزاءها. أما ثانيهما فهي القضية الكردية التي تقلق تركيا أشد القلق منذ عشرات السنين، قضية كان هاجسها حتى عام 2011، عام اندلاع الثورة السورية، مقتصرا على التخوف من طموحات الكرد في الداخل التركي . ومن طموحات كرد العراق الذين يتمتعون بإقليم أقرب إلى الدولة المستقلة منه إلى إقليم في دولة فيدرالية. فقد بدأ التحرك الكردي في سوريا وعلى حدودها الجنوبية يقلقها بعد أن رفعوا السلاح بوجه تنظيم داعش وهزموه في عدد من المعارك أبرزها معركة كوباني. فتركيا تعتبر الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا الذي يقود المعارك حليفا لحزب العمال الكردي التركي الذي تصنفه إرهابيا. ومما يضاعف من قلق تركيا هو النوايا الأميركية التي تكمن وراء رعايتها لهم والتي تتناول التدريب والتزويد بالسلاح وتوفير الاستشارات الاستخبارية والميدانية. فالولايات المتحدة كما يرى العديد من المتابعين أكثر قربا من الكرد كحلفاء يعول عليهم في العراق وسوريا لأنهم لم يدخلوا في مزادات الشعارات المعادية لسياساتها. تركيا تتوجس من استحقاقات هذا التحالف خصوصا أن الحديث عن الفيدراليات بات يلقى قبولاً في أوساط عديدة في المنطقة وخارجها. من الصعوبة بمكان التكهن بمستقبل التحالفات التي تتشكل حول القضية السورية فهي معقدة للغاية، فمع أن روسيا، لدواعٍ سياسية وجغرافية، تفضل التنسيق مع إسرائيل وتركيا وليس مع إيران وتوابعها إلا أنها تواجه صعوبات في تسويق ذلك. فتركيا لها موقف معادٍ معلن لنظام الأسد الذي ربما لن يتقبل دخولها طرفا إلا تحت شرط واحد وهو موافقتها على بقائه، وهو من جانبه لم يتخل عما يسمى جبهة الصمود والتصدي، كما أن إيران أحد أهم مستوردي السلاح الروسي لن تتقبل الدخول التركي على الخط بود وهي تشهد تراجع دورها. ليس من المتوقع أن نشهد في فترة قريبة تغيرا ملموسا في الساحة السورية، ولكن مما لا شك فيه أن عودة العلاقات بين موسكو وأنقرة سيسهم بشكل إيجابي في إنضاج حلول للأزمة السورية خاصة ما يتصل بالعودة إلى محادثات جنيف في صيغة جديدة، لذلك لقي هذا التقارب ترحيب المعارضة السورية من منطلق ثقتها بأن تركيا لن تفرط بحقوق الشعب السوري. المتغيرات في الساحة السورية والإقليمية والدولية كثيرة فقد لا تجد تركيا في نهاية المطاف ما يطمئنها على حدودها الجنوبية لأنه ليس هناك من ضمان بأن روسيا ستقف ضد مشاريع الفدرلة وليس من ضمان بأن المعارضة السورية ستتمكن من تحقيق أغراضها المعلنة كما أنه ليس هناك من ضمان لبقاء نظام الرئيس الأسد. فمع أن روسيا لها الآن باع طويل في سوريا إلا أن تسوية القضية السورية سيكون شأن دولي لا يمكن أن يجد طريقه إلى النور إلا عبر موافقة دولية لن تكون الولايات المتحدة بعيدة عنها.
مشاركة :