لم تكن التوبة الأردوغانية المضاعفة التي بدأت بتهنئة الرئيس التركي نظيره الروسي فلاديمير بوتين بعيد روسيا الوطني، وتبعتها بعد يومين رسالة اعتذار (متأخرة في توقيتها) عن إسقاط الدفاع الجوي التركي طائرة سوخوي روسية في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت كانت في مهمة استطلاعية على الحدود السورية الشمالية، ضرباً من معجزة أو من تداعيات الحرب السورية التي تدور برحاها الثقيل فوق دول المنطقة من دون استثناء. فالتوبة التي سبقت الآنفة الذكر جاءت على شكل لقاء وفد ديبلومسي تركي عالي المستوى مع نظير اسرائيلي له في العاصمة الإيطالية، بحضور عرّاب المصالحة بين اسطنبول وتل أبيب السيد جون كيري وزير الخارجية الأميركية، وتلتها عملية تطبيع بين البلدين، سريعة ومشروطة. وبالطبع ابتلعت أنقرة، وعلى مضض شديد، الشرط الإسرائيلي لإتمام عودة العلاقات بضرورة أن تتنازل أنقرة عن طلبها فك الحصار عن غزة. مما لا ريب فيه أن الرئيس التركي أردوغان طرح على نفسه ودائرته المقرّبة العديد من الأسئلة قبل الدخول في متلازمة تلك التوبات، وقد تكون تلك الأسئلة ما فتح ثغرات للأكسجين في مضائق السياسة الخارجية التركية، والتي ستؤدي إلى تحولات كبرى في مسارها الإقليمي ما بعد حرب الجميع على الأرض السورية. ومما لا ريب فيه أيضاً أن التوتر الروسي التركي من أهم الملفات المعقّدة التي وجدت جواباً اسعافياً ضمن مروحة تلك الأسئلة الصعبة التي آن لحكومة أنقرة مواجهتها. فأردوغان أصبح يدرك تماماً مدى التأثير الروسي في تصديع علاقات بلاده بالعراق وإيران فيما تحتاج إلى مسكنات لآلام الرأس التي يسببها حزب الاتحاد الديموقراطي على الحدود مع سورية، وكذلك حزب العمال الكردستاني متجاوزاً أزمات الحدود إلى توتير الداخل التركي. أما عن اليد الروسية الطولى في سورية فحدّث ولا حرج عن النرفزة التركية من السيطرة الجوية الروسية على حدودها الطويلة مع سورية والذي اقتضى انكماشاً في الإمداد اللوجستي في المناطق الحدودية، ناهيك عن توقف النشاط الجوي التركي غرب نهر الفرات في شكل شبه كامل. ومن نافلة القول إن أردوغان غسل يديه من التجاوب الأوروبي مع نهجه في ما يتعلق باللاجئين السوريين، وكذا من تفهّم الولايات المتحدة لأم المشكلات بالنسبة إلى واشنطن، والمتعلقة بإرادة أنقرة ضبط الحدود ومنع تسلل المقاتلين الأجانب عبر أراضيها، وفي الاتجاهين. وجاء التسليح الأميركي والتغطية الجوية والدعم الاستشاري لقوات سورية الديموقراطية مباشرة من وزارة الدفاع الأميركية، وهي القوات التي 80 في المئة منها كرد ونسبة ضئيلة جداً من المكونين العربي والتركماني، ناهيك عن الإنجازات التي حققتها تلك القوات. وجاء الدعم الأميركي غير المسبوق لفصيل من فصائل المعارضة السورية ليعطي إشارة إنذار واضحة وقوية لحكومة أنقرة. انتاب أردوغان إحساس عميق بأنه على طريقه لأن يدفع أثمان الاحتكاك الروسي الأميركي غير المعلن في سورية فاختار أرخص الأثمان وهو تقديم الاعتذار لموسكو وفك طوق الحصار السياسي والديبلوماسي والاقتصادي الروسي على بلاده بانتظار أن يتضح الموقف الأميركي مع انتخاب رئيس أو رئيسة جديدة للولايات المتحدة تخلف باراك أوباما. وكانت وكالة أنباء «الأناضول» التركية شبه الرسمية قد نقلت عن لسان أردوغان قبيل أيام من تطبيع العلاقات الروسية التركية قوله: «هناك مشروع خطير يُنفّذ جنوب بلادنا، ومع الأسف تقف وراء تنفيذه أطراف تظهر أنها صديقة لنا». في ضوء هذه الانعطافة التركية الكبرى باتجاه الجار الروسي، وفي أجواء التنحّي الأميركي عن مواقع شغلتها الولايات المتحدة لعقود، يقفز رأس النظام السوري على شاشة تلفزيون اس بي اس الأسترالي ليقول: «ليست لدينا مشكلة مع الولايات المتحدة، إنها ليست عدوتنا ولا تحتل أرضنا، لدينا خلافات معها»، ويتابع: «لكن في أوقات مختلفة وخلال أحداث وظروف مختلفة تعاونّا مع الولايات المتحدة». فهل وقعت تركيا فعلاً في فخ توافق روسي أميركي مضمر على مخارج الأزمة السورية كما تراها الدولتان العظميان بعيداً من مصالح الشعب السوري المنتفض عن بكرة أبيه، أو عن رؤية الدول الإقليمية التي دعمت الشعب السوري ومعارضته بسبل مختلفة ووفق الزاوية التي ارتأت بها تقديم الدعم إنسانياً كان أو حربياً أو سياسياً؟ وهل موازاةً مع التهدئة المفتعلة لجبهات حلب، والقابلة للانفجار في أية لحظة، تُنفّذ خطة أميركية متقنة وخبيثة، برضا روسي، تهدف إلى ترك الوضع معلقاً في تلك المدينة المنحنية على جرحها العظيم، وذلك لتهيئة الأرضية اللازمة كما يراها الرئيسان بوتين وأوباما للمحادثات المقبلة في جنيف، والتي اعتمد موعد الإعلان عنها، كما صرّح المبعوث الدولي ديمستورا، «على الاتفاق الجديد بين روسيا والولايات المتحدة في شأن تفاصيل الحوار في جنيف»، مبدياً أسفه «لعدم سير اتفاق وقف الأعمال العدائية كما يجب في حلب وإدلب». في فوضى هذا التلاطم السياسي والإعلامي، وسرعة تبادل الطرابيش وأحياناً الأقنعة بل المسدسات بين اللاعبين الكبار، تسري إشاعات عن وساطة جزائرية رفيعة المستوى لكسر الجليد بين أنقرة ودمشق! وبانتظار تأكيد أو نفي هذه الإشاعات يقف السوريُّ مشدوهاً، حافي القدمين وحاسر الرأس، يترقّب بحسرةٍ ما فات وبتوجّسٍ ما سيأتي من ضربات قدر يقرع الباب. * كاتبة سورية
مشاركة :