«بورتريه ذاتي» لدورر: مثال الجمال المتناسق في ملامح الرسام

  • 7/9/2016
  • 00:00
  • 28
  • 0
  • 0
news-picture

مهما كانت اهمية اللوحات التي رسمها الألماني دورر طوال حقبة نشاطه الفني، وصوّر فيـــها نفــسه، تبــقـــى هذه اللوحات، عددياً على الأقل، غير ذات شأن بالمقارنة باللوحات التي خلفها، في السياق نفسه، شماليان آخران، هما رمبراندت وفان غوغ. فهذان أنجزا أعداداً كبيرة من لوحات يرسم كل واحد منهما فيها وجهه وحالاته النفسية المتقلبة، على مدى عشرات السنين. دورر رسم مثل تلك اللوحات، ولكن من المؤكد ان «البورتريهات الذاتية» الخالصة التي حققها لا يتعدى عددها العشرة. ومع هذا لم يفته، كما كان يفعل معظم فناني عصر النهضة من إيطاليين وغيرهم، أن يرسم نفسه بين شخوص لوحات جماعية، من حين الى آخر، ودائماً على شكل شاهد على الحوادث، غير منخــرط كليـــاً فيها. واليوم من الواضح أن «بورتريهات دورر الذاتية» تبدو لمن يشاهدها، على قلة عددها، متميزة، بسبب مقدرتها على التوغل عبر الألوان والخطوط، ولا سيما عبر حركة الأيدي - التي تبدو إرادية في معظم الأحيان - وملامح الوجوه - التي من المؤكد أنها تبدو من ناحيتها غير إرادية بصورة عامة -، كما على استشفاف الحال النفسية وربما المزاجية أيضاً، التي كان عليها الرسام يوم حقق اللوحة. والطريف ان دورر نفسه كان يقول دائماً، انه من المستحيل ان يرسم اي رسام نفسه في شكل صحيح، بينما يمكنه أن يفعل هذا للآخرين. لماذا؟ بكل بساطة، لأن الرسام اذ يشاهد الآخرين مواجهة، وعلى حقيقتهم، لا يمكنه الا ان يشاهد نفسه معكوساً في المرآة. يومها لم يكن هناك تصوير فوتوغرافي، فكان على الرسام كي يصور نفسه، إما ان ينظر الى صورته معكوسة في المرآة، وإما ان يلجأ الى الخيال لتصور ما هو كائن حقاً عليه، وإما ان ينطلق - في حالات نادرة - من صورة رسمها له زميل. وفي هذه الحالات الثلاث من البديهي ان الرسام لا يمكنه ان يشاهد نفسه على حقيقتها. > صورة حقيقية ام صورة معكوسة؟ مهما يكن من أمر فإن رمبراندت، زميل دورر الكبير، استعان بالمرآة ليرسم نفسه عشرات المرات. وكذلك فعل دورر، ولكن في عدد من المرات اقل. وهنا، كما فعل رمبراندت ايضاً، من الواضح أن دورر لم يصور نفسه، بل صور من خلال «مرآة ذاته» صورة العالم في زمنه، وصورة لمزاجية ذلك العالم. وهذا امر تؤكده اعمال دورر الكثيرة، من لوحات زيتية ومحفورات خشبية، جعل من معظمها وسيلة للتعبير عن حال الإنسان في زمنه، في علاقته مع الطبيعة ومع الكون ومع الآخرين. من هنا فإن «بورتريهاته الذاتية» يمكن اعتبارها صورة لعلاقة المرء مع روحه. وحسبنا للتيقن من هذا ان نعود الى أول «بورتريه ذاتية» معروفة لدينا بتوقيع دورر، وهي تلك التي رسمها في العام 1493، وكان في ذلك الحين في الثانية والعشرين من عمره. > هذه اللوحة معلقة اليوم في متحف اللوفر، ويبلغ ارتفاعها 56 سم، وعرضها 45 سم ويبدو دورر فيها، ضائع الملامح والتعابير بين قسط من الرجولة وشيء من الأنوثة، بين خروجه من سن المراهقة ودخوله سن البلوغ. انه يبدو وكأنه الإعلان المسبق عن تلك الحال المحايدة بين الأجناس والأعمار، التي سيعبر عنها، لاحقاً، ألماني آخر، هو توماس مان، من خلال شخصية «تادزيو» في رواية «الموت في البندقية»... حال الإنسان في بعده المثالي، كجامع للأعمار والأجناس... الإنسان بالمعنى المطلق للكلمة. الإنسان المثالي. ولا ننسى هنا ان دورر، الذي عاش في خضم عصر النهضة الإنسانية، كان من قراء الفلسفة والعلوم، الباحثين عن شكل الوجود الإنساني ومعناه، وعن المثل الأعلى الجمالي، عند الإنسان، لا في الطبيعة وحدها ولا في الأعالي وحدها. > و «بورتريه» دورر الذاتية هذه، التي قال عنها مواطنه غوته حين رآها، او رأى لوحة منسوخة عنها بأمانة، «إنني أرى أن لوحة دورر هذه المؤرخة في العام 1493، هي عمل لا يقدر بثمن». كانت حماسة غوته للوحة كبيرة، ذلك انه شاهد فيها ما هو في خلفيتها، اكثر مما شاهد سماتها الشكلية الخارجية. والحال، انه قبل غوته وملاحظاته، كان تاريخ الفن ينظر الى لوحة دورر المبكرة هذه على انها المثال الصارخ على الكيفية التي يمكن من خلالها للفنان ان يغوص في الأعماق ويقدم رؤية تتجاوز السطح، مهما كان السطح مبدعاً وجميلاً. > حين صور دورر نفسه في هذه اللوحة كان بالكاد تجاوز العشرين من عمره، وكان على وشك الزواج كما سوف نرى. يومها كان لا يزال «أجرد» خجول النظرة. ومن الواضح ان شحوبه ونحوله ليسا هنا نتيجة مرضه جسدياً، بل ينمان عن قلق داخلي عميق، تماماً كما تفعل النظرة الجانبية، التي من الواضح أنها نظرة مرآة. بمعنى ان الفنان ينظر الى نفسه هنا، وهو يصوّر نفسه، انما عبر المرآة. النظرة تكشف عما قد يبدو لنا أنه حدة في الشخصية، على رغم الوهن البادي في الملامح. غير أن الأنف القوي الذي ينم عن أصول دورر الهنغارية، ويكشف انه لم يكن ألمانياً خالصاً، يعطي السمات كلها تماسكها المدهش، وكأنه دعامة اللوحة - والشخصية - في شكل مطلق. وهذا نفسه يمكن ان يقال عن اليدين اللتين تتناقض قوتهما، مع ضعف ملامح الوجه. ففي اليدين عنفوان ورجولة يعوضان عن السمات الأنثوية التي تجعل المشاهد يعتقد، ما إن ينظر الى اللوحة للوهلة الأولى، ان المرسوم فتاة لا شاب. ولنضف الى هذا ان حرص دورر على ان يجعل يده اليمنى ممسكة بهذه النبتة على هذه الشاكلة، امر فيه دلالة واضحة، لأنه في ذلك الحين كان رمزاً للتعبير عن كونه رجلاً مقبلاً على الزواج. فالخاطب وحده كان يحمل في الصدر مثل تلك النبتة. والواقع أن جذر النبتة الطويل الذي يتجاوز طوله احدى اليدين ليتشابك مع اليد الأخرى، انما هو هنا للتأكيد على الرغبة في ديمومة العلاقة التي يتوخاها دورر مع خطيبته التي ستصبح زوجته قريباً. > هذا بالنسبة الى خطوط هذه اللوحة الفذة. اما بالنسبة الى ألوانها فإنها تحكي حكاية اخرى. انها ألوان واضحة حادة ليس ثمة اي التباس في الحدود التي تفصلها عن بعضها بعضاً. من القبعة الى الشعر الطويل المهدل، الى القميص والعباءة. فكلها مرسومة بتعبير ينم عن ان دورر كان في ذلك الوقت المبكر من حياته وعمله. لا يزال «قوطي» الاتجاه، على رغم نزعته الإنسانية. والحق ان مقارنة بين هذه اللوحة وبين اعمال دورر اللاحقة سوف تكشف لنا كم انه سيتحول الى النزعة الإنسانية الشديدة الواقعية لاحقاً. > في هذه اللوحة رأى دارسو حياة دورر وأعماله، انه يعبر جيداً عن تأرجحه في ذلك الوقت المبكر بين تأثيرات مدرسة نورنبورغ - مسقط رأسه -، وبين مكتسبات الفن النهضوي الإنساني، التي اكتسبها من خلال زيارتين قام بهما الى فينيسيا (البندقية) حيث واتاه الحنين الى المثل الأعلى الجمالي - ما يحيلنا هنا أيضاً على رواية توماس مان المشار اليها -. والحقيقة ان هذا التأرجح، انما يأتي هنا ليعبر عن رغبة دورر المستحيلة في ان يقيم توليفة، في رسومه وأفكاره، بين عالمين كان بدأ يحس بانتمائه اليهما معاً: العالم المتوسطي، والعالم الجرماني، على نسق كان يليق بصديق وقارئ نهم لمارتن لوثر وميلانكتون وزفينغلي وغيرهم من كبار مبدعي الفكر الإنساني. > ولد اولبرخت دورر العام 1471، ومات العام 1528، وقد اعتبر دائماً الوجه الأهم في حركة النهضة الفنية والإنسانية في اوروبا الشمالية. وهو، كابن لجواهرجي ثري، وكحفيد لواحد من اكبر مؤسسي الرسم الألماني، دخل المهنة باكراً، بالتواكب مع اطلاعه على الأفكار الإنسانية، ثم دخل المدرسة اللاتينية حيث راحت النزعة المتوسطية تتسلل الى فكره وأحساسيه. وهو عاش حياة مليئة بالرحلات والقراءات والرسم، وخلّف بعض اجمل ما ينتمي، منذ قرون عديدة، الى الفن الألماني الذي كان من كبار مؤسسيه، والفن الإنساني الذي كان من كبار المعبرين عنه.

مشاركة :