لم تكتفِ التحولات الطارئة في العلاقات التركية مع موسكو وتل أبيب بالاستحواذ على المنابر الإعلامية التركية وحسب، بل تجاوزتها كي تفرض نفسها على التقارير ومقالات الرأي وأوراق تقدير المواقف في عدد من مراكز الأبحاث الغربية والعالمية. فقد أظهرت تحركات الحكومة التركية الجديدة الحثيثة لإذابة الجمود في العلاقات مع روسيا وإسرائيل أن رئيس الوزراء بينالي يلدريم وطاقمه الجديد يتبنون سياسات خارجية واقعية تسعى إلى معالجة الآثار السلبية التي اتبعتها سياسات الحكومات السابقة وتضع هدف إعادة تموضع أنقرة على الخارطة الإقليمية كأولوية أمام الطاقم الجديد. بدأت هذه الاستدارات مع إعلان الجانبين التركي والإسرائيلي التوصل إلى صيغة لإيصال المساعدات التركية إلى قطاع غزة وتسوية حول وضع بعض القيادات العسكرية لحركة حماس في الأراضي التركية، بعدما توصلوا إلى اتفاق حول دفع تعويضات لأهالي ضحايا سفينة مافي مرمرة عام 2010م وتقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي باعتذار للشعب التركي عبر رئيس الوزراء في ذلك الوقت رجب طيب أردوغان. تلى هذا الحدث خطاب أرسله الرئيس التركي أردوغان إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتضمن اعتذار عن أي ضحايا نتجت عن إسقاط الطائرة الروسية تلتها تصريحات روسية رسمية إيجابية بخصوص العلاقات مع تركيا ولقاء جمع وزيري خارجية البلدين. تتزامن الاستدارات السياسية الخارجية مع وجود سعي وإرادة دولية وإقليمية ترغب في التوصل إلى تسوية إقليمية لمختلف النزاعات متمثلا في المحادثات السورية - السورية والمحادثات اليمنية (وإن تعطلت أو تعرقلت بشكل مؤقت)، وتكثيف كافة الجهود والموارد المتاحة من أجل محاربة تنظيم (داعش) الإرهابي على غرار ما يواجهه التنظيم من ضربات في العراق وشمال سورية. حيث ترى الحكومة التركية أن التموضع في الخارطة الإقليمية الجديدة (خارطة ما بعد الربيع العربي) وحماية المصالح التركية السياسية والأمنية والاقتصادية على المدى القريب والمتوسط يتطلب توسيع الخيارات المتاحة أمام صانع القرار التركي عبر فتح أكبر قدر من قنوات الاتصالات المعطلة وتقوية القنوات القائمة مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في المنطقة، واستثمار أي تطور في علاقات تركيا مع هذة القوى للحصول على قبولها أو تجنب معارضتها لأي طرح تركي بخصوص التسويات الإقليمية ومسألة محاربة تنظيم داعش. من ناحية أخرى تدفع التطورات الأمنية المتسارعة في الشمال السوري على أنقرة إلى تعزيز خطوات أكثر تقدمًا في تطبيق مبدأ (تقليل الأعداء وزيادة الأصدقاء) الذي أعلن عنه رئيس الوزراء التركي بينالي يلدريم، حيث يتقاتل عناصر تنظيم داعش مع عناصر حزب الاتحاد الديموقراطي (الذي تتهمه تركيا بأنه فرع لحزب العمال الكردستاني في سورية) بشكل يوحي بأن أي مكاسب عسكرية لأي طرف من الطرفين لن تكون في صالح الأمن القومي التركي الذي يعترف بالتنظيمين كمنظمتين إرهابيتين، والذي شهد تهديداتهم مؤخرًا بشكل علني في تفجير تنظيم داعش لصالة الوصول الدولي لمطار أتاتورك في إسطنبول والعمليات العسكرية المتواصلة مع المسلحين الأكراد في مدن جنوب شرق تركيا. فقد أثبتت مدخلات الوضع الأمني الجديد في سورية بأن أنقرة في حاجة إلى قنوات اتصال قوية مع القوى الإقليمية والدولية المتواجدة في الملف السوري، فقد فرضت موسكو نفسها بقوة على الملف السوري عقب تدخلها العسكري في منتصف عام 2015م كما بدأت تظهر إرهاصات عن وجود مسعى لتواجد إسرائيلي بشكل مختلف عكسته ضربات الطيران الإسرائيلي على أهداف تنظيم داعش في الجنوب السوري والتنسيق الروسي - الإسرائيلي عسكريًا واستخباراتيًا في الملف السوري، من ناحية أخرى ستعكس الأسابيع المقبلة محاولات لتقوية قنوات الاتصال التركية مع الدول الخليجية ذات التأثير في الملف السوري وعلى رأسها المملكة، حيث تعتبر قنوات الاتصال التركية - السعودية من أقوى القنوات لدى تركيا فيما يخص الملف السوري ويعزز من قوة هذه القناة انفتاح حكومة المملكة على الحكومة التركية والخطوات الإيجابية المهمة التي اتخذتها الرياض وأنقرة لتجاوز صفحة الماضي والتركيز على المصالح الثنائية البينية والإقليمية المشتركة في الوقت الحاضر وفي المستقبل. لا تخلو الخارطة الإقليمية الحالية من الأبعاد الاقتصادية التي تظهر فيها مصالح حيوية وإستراتيجية لتركيا كي تشجع حكومة أنقرة أكثر على إتمام تحركاتها الحالية وتعزيز قنوات اتصالها مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط. حيث تظهر منافع كبرى لتركيا في حال تم تضمينها في مشروعات التنقيب أو بيع مخزونات الطاقة في شرق البحر المتوسط، فقد ذكرت تقارير إعلامية أن تكلفة نقل غاز البحر المتوسط إلى تركيا ثم إلى أوروبا أقل من تكلفة نقلها مباشرة من جزيرة قبرص أو اليونان إلى أوروبا. حيث تمتلك تركيا سوقا داخليا يتميز بأن طلبه على الطاقة يتضاعف بصورة متسارعة تجعله في احتياج دائم للتواجد في أي استثمارات طاقة بجواره، كما يتقاطع هذا الأمر مع وجود هدف تركي بأن تصبح الأراضي التركية معبرا إستراتيجيا للطاقة من الشرق المنتج للطاقة إلى الغرب المستهلك للطاقة، وكي تستطيع أنقرة الاستفادة من هذة الفرص وجني ثمارها، تحتاج إلى المضي قدمًا في تعزيز قنوات اتصالها مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في خارطة الطاقة في البحر المتوسط كي تخطو خطوات أكر تقدمًا في حل القضية القبرصية وإذابة الجمود السياسي في العلاقات مع القاهرة على غرار تحركات إذابة الجمود في العلاقات التركية مع موسكو وتل أبيب. أخيرًا تثبت التحولات الأخيرة في السياسة التركية بأن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية ذات قدرة على تغيير أي قناعات قديمة مهما كانت راسخة، وأن هذه المصالح قادرة على خلق قناعات جديدة محل القناعات القديمة وتوجد لها أسباب تشجع أنقرة على اتخاذ خطوات تضمن لها وضعا إقليميا أفضل وموقعا أقرب لتحقيق وضمان مصالحها الإقليمية.
مشاركة :