كانوا شبابا صغارا عاديين من الذين تخرجوا في المدارس الخاصة ويمارسون الرياضة ويتقابلون في المقاهي ويتعاملون مع مختلف وسائل التواصل الاجتماعي كغيرهم. وكان أمامهم مستقبل مشرق. ولكنهم اختفوا على نحو مفاجئ. وظنت عائلاتهم أنهم اختطفوا أو ضلوا طريقهم وراء علاقة عاطفية طائشة. وظل الأمر كذلك حتى وقعت الحادثة المروعة في مقهى هولي أرتيزان في العاصمة دكا، حيث علمت العائلات بأن أبناءهم قد تطرفت عقائدهم وتحولوا إلى إرهابيين وقاموا بتنفيذ واحدة من أكثر الهجمات الإرهابية دموية التي شهدتها بنغلاديش في السنوات الأخيرة. اقتحم ما لا يقل عن نصف دزينة من الشباب في أواخر سن المراهقة وأوائل العشرينات من أعمارهم ذلك المقهى في الحي الدبلوماسي بالعاصمة دكا، حيث احتجزوا رواد المقهى كرهائن هناك لمدة 12 ساعة. قتلوا في تلك الحادثة تسعة من الإيطاليين، وسبعة من اليابانيين، وفتى هندي في سن المراهقة، وثلاثة طلاب يدرسون في الجامعة الأميركية - قبل أن تتمكن قوات الشرطة من قتلهم. ويعد هذا الحادث هو الأكبر من نوعه الذي تشهده بنغلاديش منذ وقت طويل. وأغلب هؤلاء المهاجمين قد تلقوا تعليمهم في المدارس الخاصة المرموقة التي تدرس اللغة الإنجليزية، والتحقوا بمختلف الجامعات في داخل وخارج البلاد. وهم أبناء الآباء والأمهات المتعلمين، ورجال الأعمال، وحتى أحد السياسيين من الحزب الحاكم في البلاد. وحددت مدونات الـ«فيسبوك» المهاجمين، حيث نشرت صورهم على موقع تنظيم داعش الإرهابي وهم يبتسمون أمام الرايات السوداء، وكانت أسماؤهم: نبراس إسلام، وروحان امتياز، ومير سامح مباشر، وعندليب أحمد، وريان منهاج. ولكن، عصفت الصدمة بكثير من العائلات الأخرى بعد مقطع فيديو جديد صادر عن التنظيم الإرهابي يصور ثلاثة شباب من بنغلاديش يهددون بشن المزيد من الهجمات في البلاد. وفي غضون ساعات من نشر مقطع الفيديو المثير للجدل، بدأ الأصدقاء والمعارف في تحديد هوية الشبان الثلاثة على مواقع التواصل الاجتماعي. وتم التعرف على أحدهم باسم (عرفات توشار آل آزاد)، وهو نجل ضابط في الجيش البنغالي ومتزوج من طبيبة الأسنان وعارضة الأزياء الأولى والممثلة البنغالية المعروفة (نائلة نعيم). واختفى الشاب توشار، طبيب الأسنان المتمرس، عن الأنظار منذ عامين كاملين. والشخص الثاني الذي تم التعرف عليه في مقطع الفيديو هو (تحميد رحمن شافعي)، وهو من المطربين الموهوبين ونجل المفوض الأسبق للانتخابات العامة في بنغلاديش. وحددت وكالة (bdnews24) الإخبارية البنغالية هوية الشخص الثالث في مقطع الفيديو بأنه (توصيف حسين)، وهو طالب سابق في معهد إدارة الأعمال التابع لجامعة دكا، ولقد غادر الجامعة من دون أن يستكمل دراسته فيها. ويبدو أن مقطع الفيديو جرى تصويره في الرقة، عاصمة الخلافة المزعومة للتنظيم الإرهابي داخل سوريا. وكان شافعي هو الذي يقوم بمهمة الترجمة عن الشابين الآخرين. وبدأ الفيديو برسالة دعائية للتنظيم الإرهابي، مع ترجمة فرعية باللغتين البنغالية والعربية، والتفاخر بأعداد القتلى الذين سقطوا جراء الكثير من الهجمات الإرهابية التي أعلن التنظيم مسؤوليته عن التخطيط لها وتنفيذها. قال الأول من بين الشبان البنغاليين الثلاثة، والذي يعرف باسم شافعي، في رسالته إلى حكومة بنغلاديش: «إن القتال في بنغلاديش، وهو الذي تشهدونه الآن، ليس كأي شيء سمعتم عنه أو عرفتموه من قبل». وبالإشارة إلى الهجوم الذي وقع على المقهى في الحي الدبلوماسي، قال الشاب البنغالي: «إن ما شاهدتموه في بنغلاديش مؤخرا ليس إلا غيض من فيض، ولسوف تتكرر الهجمات، وتتكرر، وتتكرر حتى تهزموا ونحوز نحن النصر ونعيد الشريعة إلى البلاد». كان شافعي واحدا من بين 15 مطربا يافعا في الجولة الأولى لبرنامج تلفزيون الواقع (كلوز أب وان) في بنغلاديش، والذي كان يُذاع على قناة (إن تي في). ولقيت الأغنية التي غناها شافعي في البرنامج بعنوان «مون شودهو مون تشويشي» ترحيبا واسع النطاق وانتشارا كبيرا في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. وذكرت وسائل الإعلام البنغالية أن شافعي كان يدرس في كلية نوتردام في دكا، وهي من أبرز الكليات المرموقة في البلاد والتحق بجامعة براك لنيل درجة البكالوريوس منها. وكان روحان امتياز، أحد الشبان المهاجمين في حادثة المقهى، أحد الطلاب الملتحقين بنفس الجامعة أيضًا. كان حسين قد ألقي القبض عليه في وقت سابق بسبب تورطه مع جماعة متطرفة في بنغلاديش. ولقد أرسلته عائلته إلى النمسا في وقت لاحق، ولكن أصدقائه قالوا أنهم لم يكن هناك، كما أفادت التقارير الإخبارية. وذكرت نفس التقارير أن عرفات اتصل هاتفيا بزوجته ليخبرها بضرورة سفره إلى تركيا لمتابعة بعض الأعمال المفاجئة، وأنه لا يعلم ميعاد عودته على وجه التحديد. أما نائلة، التي رفضت إجراء المقابلة الشخصية معها، قالت للشرطة البنغالية إنها لم تكن على اتصال معه منذ ذلك الحين. التحق عرفات، وهو نجل الرائد واشيكور آزاد من الجيش البنغالي، المدرسة العسكرية الحكومية، ويقع منزله في حي باريدهارا دوهس الراقي في العاصمة دكا. وقال أصدقاؤه إنه اعتاد ممارسة رياضة تنس الطاولة. شهدت بنغلاديش موجة متصاعدة من التطرف منذ عام 2013، في رد فعل على حملات القمع التي تشنها الحكومة العلمانية الحاكمة للبلاد على التنظيم الإسلاموي الرئيسي في البلاد والمعروف باسم جماعة الإسلام. ولقد تم إعدام أربعة من كبار شخصيات الجماعة المذكورة للجرائم التي ارتكبوها خلال حرب استقلال بنغلاديش عن باكستان في عام 1971. ويقول ساجان غوهيل، مدير الأمن الدولي لدى مؤسسة آسيا والمحيط الهادي: «تخوض بنغلاديش غمار المعركة بين اثنتين من الجماعات الإرهابية في البلاد على نحو من يمكنه أن يقتل المزيد من الطرف الآخر. إنهم يتنافسون فيما بينهم في لعبة دموية ومميتة لا تنتهي». والجماعتان المحليتان الاثنتان هما جماعة المقاتلين في بنغلاديش، وفريق أنصار الله البنغال، واللتان قد أعلنتا الولاء لتنظيم داعش وتنظيم القاعدة فيما سبق. ولقد شن فريق أنصار الله البنغال المدونين العلمانيين إلى جانب الكهنة الهندوس في البلاد على مدى العامين الماضيين. وبالمقارنة، كانت الهجمات المنسوبة إلى المتعاطفين مع «داعش» تستهدف بالأساس الأجانب في البلاد. وفي أواخر عام 2015، أعلن «داعش» أن مسلحيه - والمعروفين إعلاميا باسم «جنود الخلافة في بنغلاديش» - كانوا وراء مقتل أحد عمال الإغاثة الإيطاليين وأحد المواطنين اليابانيين في بنغلاديش. لماذا كان أبناء العائلات الثرية والمتعلمين هم أهداف التجنيد لدى الجماعات المتطرفة؟ يقول بعض المحللين أن ما يمنحهم الجاذبية كأهداف محتملة للتجنيد هو خلفياتهم التي قد لا تثير الشكوك أو الشبهات حولهم. ويقول بيناك رانجان تشاكرافارتي، الدبلوماسي الهندي الأسبق والخبير السياسي في شؤون بنغلاديش لصالح مؤسسة أبحاث المراقبين: «إنهم لا يتسقون مع الصورة النمطية للشباب من خريجي المدارس الدينية في البلاد». وأضاف السيد تشاكرافارتي يقول: «إن قيمة الصدمة المحققة من تجنيد الجماعات الإرهابية للشباب المتعلم أبناء العائلات الثرية كبيرة للغاية. فهم من الفئة التي لا تشك الحكومة فيهم أبدا. كما أنهم خارج دائرة شبهات أجهزة الاستخبارات. وذلك لأن أمثال هؤلاء الفتية لم يخضعوا للمراقبات الأمنية أبدا». وقال بنازير أحمد، قائد كتيبة التدخل السريع الخاصة التابعة للشرطة البنغالية، وكما أفادت قناة (إن دي تي في) الهندية عنه: «من الصعب تصور كيفية تعرض أولئك الفتيان للتطرف الديني. إن ما لا يقل عن أربعة منهم ينتمون إلى عائلات ثرية للغاية». وأضاف السيد أحمد يقول واصفًا أولئك الشباب بأنهم «شباب صغار طائشون» أن بعضهم اعتاد زيارة المطعم الذي هاجموه وكانوا من رواده فيما سبق.
مشاركة :