تعرفت للمرّة الأولى إلى تقرير السفير العثماني محمد أفندي يرميسكيز ت 1732، حين قمت بترجمة كتاب ثريا فاروقي، الدولة العثمانية والعالم المحيط بها عام 2008. وأذكر أنني قمت حينذاك بتدوين ملاحظة علمية خاصة بضرورة عقد مقارنة بين ما كتبه العثماني يرميسكيز عن باريس (1720 - 1721)، وما كتبه المصري رفاعة الطهطاوي عنها (1826 - 1831)، وذلك من أجل اكتمال سبر أغوار الرؤية الشرقية لفرنسا والغرب في بواكير العصر الحديث. إلى أن قام خالد زيادة بالاقتراب من ذلك بعد قيامه بنقل «سفارتنامه فرانسه» إلى العربية، معتمداً على الترجمة الفرنسية للأصل العثماني. والحقيقة أن العلاقات السياسية العثمانية - الفرنسية إنما عادت إلى قرنين سابقين على ذلك. حيث كانت قد شهدت تطوراً نوعياً زمن السلطان سليمان القانوني (1494 - 1566) الذي أوجد علاقة طيبة مع الملك فرنسوا الأول عام 1525، بسبب رغبة العثمانيين في التحالف مع طرف أوروبي قوي، وهو ما كان يتطلع إليه أيضاً العاهل الفرنسي بسبب صراعه الطويل مع إسبانيا. بعد ذلك اتفق الطرفان على معاهدة 1528 التي مارس التجار الفرنسيون بمقتضاها التجارة بحريّة في الأراضي العثمانية. وتطور التحالف العثماني – الفرنسي آنذاك لتشترك الدولتان في مهاجمة الموانئ الإسبانية عام 1553. وإذا عدنا إلى سفارة محمد أفندي يرميسكيز (وتعني كلمة يرميسكيز الرقم 28 باللغة التركية) - الذي اكتسب لقبه من التحاقه جندياً بالفرقة الثامنة والعشرين من فرق الانكشارية - فسنجد أنها كانت إحدى ثمار سياسة الصدر الأعظم إبراهيم باشا، صهر السلطان العثماني أحمد الثالث. الذي انتهج سياسة انفتاحية تجاه أوروبا والشرق، فأرسل أيضاً المبعوثين أحمد درّي أفندي إلى إيران في العام التالي 1721 ومحمد أمني أفندي إلى روسيا 1740 - 1741. على أية حال، زار محمد يرميسكيز باريس كسفير معتمد في بلاط الملك لويس الخامس عشر وسلّمه رسالة من السلطان العثماني أحمد الثالث. وفي ما بعد تمت ترجمة تقريره إلى الفرنسية بمبادرة من البلاط العثماني. غير أنه من الغريب أنه لم تتوافر سوى القليل من المصادر الفرنسية عن تلك البعثة العثمانية الفريدة. بدأ يرميسكيز تقريره بالإشارة إلى حسن العلاقة بين الدولة العثمانية وفرنسا، وهو ما تجلّى في سماح السلاطين بترميم كنيسة القيامة بالقدس. كما أشار إلى رغبة الصدر الأعظم إبراهيم باشا في مد جسور العلاقة مع فرنسا. غادرت سفينة المبعوث العثماني مرفأ إسطنبول في السادس والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 1720، وبدأ في وصف أحداث الرحلة البحرية ومحطاتها كافة حتى الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) «قاسم Kasim باللغة التركية» حتى وصوله إلى ميناء طولون بعد شهرين تقريباً. وهناك اصطدم بالاحتياطات الصحية الفرنسية نتيجة انتشار وباء الطاعون، فدار عبر قناة طويلة متخذاً الطريق البرّي نحو باريس التي وصلها بعد شهرين من وصوله إلى الأراضي الفرنسية. ويعد الوصف الدقيق الذي قام به يرميسكيز لمراسم استقباله في فرنسا مؤشراً إلى مدى حفاوة الفرنسيين بالعلاقات الجيدة مع العثمانيين. وفي باريس، التقى يرميسكيز الملك الشاب والوصيّ على العرش وكبار رجال الدولة والقادة العسكريين. وأقام في باريس خمسة أشهر كانت كافية للقيام بالكثير من الزيارات لأهم معالم المدينة ووصفها في شكل تفصيلي. كما لفت نظره اصطفاف الباريسيين رجالاً ونساءً في الشوارع لاستقباله. «... الذين لم يشاهدوا قبل ذلك عثمانياً أبداً، فإن الكبير والصغير جاء ليعاين أي نوع من البشر نحن». كما لفت نظر المبعوث العثماني في شكل خاص وجود النساء في الطرقات وتحررهن ورغبتهن في التعرف إلى ذلك الكائن الشرقي. ولأن الغرض الرئيسي من البعثة كان التعرف إلى مظاهر المدنية الأوروبية ومحاولة العثمانيين الاستفادة منها، فقد احتلت القصور والحدائق والمصانع معظم أوقات الزيارة. فزار يرميسكيز مصانع غزل السجاد وصناعة الزجاج، ووصف في شكل مفصّل كيفيّة الرسم عليهما. وزار الأوبرا الفرنسية وأبدى إعجاباً كبيراً بها وبالنساء الموجودات فيها «كل الأعمدة والسقوف والجدران مذهّبة... بريق ملابس النساء اللواتي يسبحن في الأحجار الكريمة أعطى على ضوء الشموع أجمل أثر في الدنيا». وكذا قام بزيارة متحف التاريخ الطبيعي والأوبسرفتوار والفلكيين الموجودين فيه. كما زار جسور باريس وكنيسة نوتردام، فضلاً عن المؤسسات الطبيّة في المدينة. ولاحظ وجود أماكن لزراعة النباتات التي تنمو في الهند - وليس أميركا التي اكتسبت اسمها الأخير قبل أكثر من قرنين من سفارة يرميسكيز - بعد استعمال التدفئة لتوفير بيئة شبه طبيعية من أجل نموّها. ومع اعترافه بأن إسطنبول أكبر مساحة من باريس، فإنه رأى الأخيرة أكثر ازدحاماً. وكان لديه تفسيره الخاص بأن خروج الفتيات والنساء الباريسيات إلى الشوارع «... لأن النساء لا يستطعن المكوث في منازلهن لحظة واحدة...» هو ما جعل باريس مزدحمة عن العاصمة العثمانية. غير أنه من الغريب أن نلاحظ أنه لم يدوّن أي ملاحظة ذات طابع عسكري حول الفرق العسكرية في الجيش الفرنسي ومدى تسليحها. ولم يزر أي مكان ذا طابع عسكري. على أنه يمكن فهم ذلك بأنه ربما التزم بجدول الزيارة الذي وضعه الفرنسيون الذين اكتفوا فقط بدعوته إلى أحد العروض العسكرية. على أي حال، كان من نتائج تقرير يرميسكيز أن أمر الوزير إبراهيم باشا ببناء «قصر السعادة» لسكن السلطان العثماني، حيث تم تخطيطه على غرار قصر «مونتان بلو» في فرنسا. ثم تناثرت القصور الأخرى حوله، لتتحول شوارع إسطنبول إلى محاكاة شوارع باريس، خصوصاً في ما يتعلّق بالاحتفالات الليلية التي تضاء بها الشموع، وتنطلق فيها الألعاب النارية. وتأثرت الطبقة الأرستقراطية العثمانية بما ورد في تقرير يرميسكيز حول المدنية والأبهة التي يعيش فيها الأثرياء الباريسيون، فاندفعت إلى استخدام الأثاث ذي الذوق الفرنسي، والإفراط في الرسم والزخرفة، الأمر الذي ساعد – لأول مرّة – على مسألة رسم الأشخاص والوجوه البشرية. جدير بالإضافة أن بعثة السفير العثماني محمد جلبي أفندي يرميسكيز تألفت من خمسين فرداً، احتل شخصان مكانة متميزة وسطها. الأول هو ابنه سعيد الذي تشرّب الثقافة واللغة الفرنسية في باريس، وحمل معه عند عودته الكثير من الكتب والسلع والأدوات الجديدة، ما ساهم في إحداث نهضة ثقافية في إسطنبول بعدما استطاع التأثير في أقرانه من الشبان الأتراك المولعين بالتعرف وتقليد كل ما هو غربي. أما الثاني فكان الإمام الذي رافق البعثة العثمانية من أجل إقامة الشعائر الدينية. غير أن الرجل – بعكس ما فعله مقيم الشعائر المصري رفاعة الطهطاوي بعد قرن واحد – لم يكن له أي دور تنويري أو ثقافي خارج دوره المكلّف به. ووفق خالد زيادة، فإن تقرير السفير يرميسكيز يسجّل الإرهاصات الأولية للصدع الذي أصاب النموذج العثماني في الحياة، وشعورهم بالنقص أمام نموذج متقدّم، مع تنامي الرغبة في التجديد، بخاصة بعد ثلاثة عقود من الهزائم العسكرية وتزايد الدور العسكري الروسي. ويعد هذا التقرير المهم الجهد العثماني الأول لتجاوز الثقافة العثمانية التقليدية عبر القفز على مسألة اختلاف العقيدة، ومحاولة التشبّه بمنجزات الأوروبيين المختلفين في العادات والتقاليد. كما حاول زيادة أيضاً ما سبق أن طالبت به من قبل، وتصدّى لعقد مقارنة سريعة بين نتائج رحلة المبعوث العثماني محمد يرميسكيز إلى باريس 1720، ورحلة إمام البعثة المصرية رفاعة رافع الطهطاوي إليها عام 1826، مدركاً أن شخصيتيهما ودوريهما كانا مختلفين. فالأول سفير رسمي قابل الملك والأمراء وزار الأماكن المعمارية والفنيّة والثقافية، أما الثاني فكان مجرّد إمام للبعثة العلمية المصرية، فضلاً عن تمتع الأخير بميزة مكوثه في باريس لخمس سنوات كاملة. كما أن وصول رفاعة كان بعد قرن كامل من مغادرة يرميسكيز باريس شهد خلاله المجتمع الفرنسي الكثير من التطورات السياسية والفكرية التي تم تتويجها بقيام الثورة الفرنسية وحملها قيم الحرية وأفكارها إلى أوروبا والعالم أجمع. كذلك عاصر الطهطاوي إبان إقامته هناك إقرار الدستور الفرنسي عام 1830. وتخلص المقارنة في نهايتها إلى أن تلك التطورات السياسية والفكرية هي التي جعلت الطهطاوي يقوم بالتركيز على العلم والمعرفة واحترام الدستور والقانون، على عكس السفير العثماني يرميسكيز الذي انصب اهتمامه على مظاهر العمران والقصور والحدائق. ومع ذلك، فإن المقارنة السريعة التي وضعها زيادة في مقدمة الكتاب، لا بد أنها ستقوم بدفع المزيد من الباحثين إلى محاولة سبر أغوار جذور النهضة العربية الحديثة ومدى تأثرها بالمؤثرات الغربية، والفرنسية منها على وجه الخصوص. في النهاية، نرى مجدداً – مع ثريا فاروقي - أنه لا تمكن دراسة المؤثرات الأوروبية الغربية وكذا الشرقية على المجتمع العثماني وعلى علاقة الدولة العثمانية بالعالم المحيط بها منذ القرن الثامن عشر الميلادي، من دون الاستعانة بنقد وتحليل تقارير المبعوثين العثمانيين محمد جلبي يرميسكيز إلى فرنسا 1720، وأحمد رسمي أفندي إلى برلين 1763، وأبو بكر راتب أفندي إلى فيينا 1792، وجريتلي علي عزيز أفندي إلى بروسيا 1796. فضلاً عن تقارير السفراء الذين اتجهوا شرقاً مثل أحمد درّي وأنلي أفندي إلى إيران 1721، ومحمد أمني بك أفندي إلى روسيا 1740.
مشاركة :