الاشتباك بين الليبرالية والشعبوية يهدد الديمقراطية

  • 7/12/2016
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

الشعبوية السياسية أو الدينية آيديولوجيا جديدة نسبيا صعبة الفهم على القارئ العادي. فهي تخاطب الشعوب أو الجمهور بلغة العاطفة. والإثارة، لتصل إلى مستوى المبالغة الغوغائية (الديماغوجية) البعيدة عن المنطق. والموضوعية في تصوير الواقع. والحقائق. من هنا، فالشعبوية تنأى عن الوسط السياسي أو الديني التقليدي. لذلك فهي غالبا صريحة. ومتحررة في نقدها ومعارضتها للوسط التقليدي الحاكم. بقدر ما هي جدلية بحاجة إلى قوة الإقناع للرأي العام. نظريا، قد تكون الشعبوية آيديولوجيا فكرية. وسلمية. وتقبل بسلمية الديمقراطية في معارضة الأنظمة. والأحزاب الحاكمة. لكن بعض أحزابها وتياراتها يلجأ إلى السلبية في المعارضة والمقاطعة، وصولا إلى استخدام العنف. والإرهاب. والسلاح، لهدم النظم. والتقاليد. والدول. وقد تتجاهل التسييس، بكل أدواته من حوار. ومراجعة للذات، كما هو الحال مع شعبوية «داعش» و«القاعدة». والتنظيمات الدينية السنية المتزمتة في سوريا. وليبيا. واليمن. ونيجيريا. ومع ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية التي تستخدمها إيران في العراق. واليمن. و«حزب الله» في لبنان. في خطابها السياسي أو الديني، تحتاج الشعبوية إلى الخطاب الاهتياجي العالي الوتيرة. من هنا يمكن وصف أدولف هتلر بأنه أخطب خطباء القرن العشرين. ويرجع إليك، عزيزي القارئ، حسب اتجاهك السياسي أو الديني، تصنيف وتوصيف خطباء كبار في العالم العربي، كشعبويين أو تقليديين: سعد زغلول. حسن البنا. أحمد حسين. عبد الرحمن الشهبندر. جمال عبد الناصر. الحبيب بورقيبة. حسن نصر الله. في فوضاه الاقتصادية والاجتماعية العارمة، يشهد العالم اليوم اشتباكا سياسيا غير تقليدي، يختلف تماما عن الصراع بين أحزاب اليمين واليسار التي حكمت اللعبة السياسية منذ أوائل القرن التاسع عشر. الاشتباك بين الليبرالية والشعبوية يهدد النظام الديمقراطي الذي ازدهر في أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد اختفاء الدولة الماركسية (1989)، تراجعت أحزاب اليمين الحاكمة التي خاضت الحرب الباردة. وصعدت أحزاب الطبقة الوسطى الليبرالية. واقترب اليمين واليسار من الوسط، ليشكلا حكومات ليبرالية منفتحة، في تحالفات غير آيديولوجية، مع أحزاب أصغر على اليمين واليسار. كان في مقدمة هذه الليبرالية الوسطية الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وتوني بلير في بريطانيا. وفرنسوا ميتران في فرنسا، وأخيرا الرئيس باراك أوباما. والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وتجسد النجاح الأكبر لهذه الليبرالية في تحويل السوق الأوروبية المشتركة، إلى اتحاد أوروبي (1991)، يضم 500 مليون إنسان. يتعاملون بعملة واحدة. وحدود مفتوحة، بلا حواجز جمركية. قامت هذه الليبرالية الحاكمة على الترويج للديمقراطية. ولحقوق الإنسان في العالم. وعولمة الاقتصاد بحرية التجارة. ومكافحة الجريمة. والعنف الديني. والتسامح في استقبال المهاجرين واللاجئين. واستخدام تقنية الثورات الإلكترونية المتلاحقة. والأهم تحقيق الأمن والسلم في أوروبا (باستثناء البلقان)، بعد حروب سياسية ودينية استغرقت ألفي سنة في القارة العجوز. لكن لماذا هذا الصدام غير المتوقع بين الليبرالية الحاكمة والشعبوية المعارضة؟ السبب عجز الأحزاب الليبرالية التقليدي عن التجاوب مع الشعوب التي تحكمها. وبصورة خاصة الشباب. وعدم قدرتها على معالجة أزمة البطالة التي أفقدت الشباب الأمل في الديمقراطية الرأسمالية. وأدت عولمة الاقتصاد إلى هجرة المصانع الغربية إلى الدول الفقيرة، طمعا في ربح أكبر باستخدام الأيدي العاملة الرخيصة الأجور. نزلت النقابات العمالية إلى الشارع، لتكافح ضد تعديل قوانين العمل، لصالح أرباب العمل في فرنسا. وفي الولايات المتحدة، تحرك العمال البيض أصحاب الياقات الزرقاء بقيادة السياسي الشعبوي دونالد ترامب، ضد ملايين العمال المهاجرين من أميركا اللاتينية. صوت عمال بريطانيا مع حزب «خليك بالبيت» الشعبوي والعنصري الذي أنشأه نايجل فراج قبل عامين باسم «حزب الاستقلال». بات الحنين إلى الهوية الوطنية والقومية ملهما للبروليتاريا الفقيرة وللشرائح المتقدمة في السن. خوفا من فقدان مكاسبها التقاعدية والصحية، مع استقبال مئات ألوف المهاجرين من سوريا وآسيا. وأفريقيا. وعمال أوروبا الشرقية. واستفادتهم جميعا من التقديمات الاجتماعية لدولة الرفاهية. جوبهت المستشارة أنجيلا ميركل بغضب عارم من شعوب وحكومات أوروبا الشرقية (باستثناء اليونان) التي اخترقها الفساد. والكراهية العنصرية للعرب. وللمسلمين عندما فتحت حدود ألمانيا وأوروبا أمام المهاجرين. الأحزاب الشعبوية استغلت شعور الشعوب بالقلق. والخوف من البطالة. والهجرة. والعنف الديني. وازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء. لكن نشأت أحزاب شعبوية جديدة في إسبانيا. اليونان. إيطاليا، متبنية الحنين الشعبي إلى ماض بلا تقنية إلكترونية استغلتها الأجهزة المخابراتية، في اختراق الخصوصية العائلية والشخصية، بحجة مكافحة الإرهاب. وهكذا، كان تصويت بريطانيا للبقاء في البيت. والانسحاب من الاتحاد، مذهلا لليبرالية الحاكمة وللاتحاد الأوروبي. كان بالإمكان تسوية النزاع العاطفي حول الاتحاد. لكن الزعماء الليبراليين فقدوا المبادرة. وإلهام الزعامة. والمسؤولية. كان بإمكان ديفيد كاميرون تسوية الجدل من دون حاجة إلى إجراء استفتاء. وحتى بعد إجرائه، كان بالإمكان تجاهله، لأنه غير ملزم قانونا وتشريعا. ألقى كاميرون بالكرة الملتهبة إلى شارع غاضب غير قادر على التحكم في عواطفه المضادة لمصلحته بالبقاء في الاتحاد. وعندما هزم سارع إلى الاستقالة. وتحميل عبء مفاوضات الانسحاب الصعبة إلى وجه آخر في حزبه. الطرافة أن زعماء الحزب الذين قاد بعضهم جمهور الانسحاب، رفضوا تحمل المسؤولية الواحد بعد الآخر، من بوريس جونسون، إلى مايكل غوف. وتركوا «الست الوزيرة» تيريزا ماي التي صوتت للبقاء في الاتحاد، وارثة لتركة كاميرون الثقيلة. كيف كان تعامل الأحزاب الليبرالية الحاكمة مع العالم العربي؟ كان الموقف سلبيا. تم تدمير المشروع القومي العربي. وتسليح أوروبا لإسرائيل بالقنبلة النووية. ثم تم تدمير العراق الجناح الشرقي الحامي للأمة العربية. وتسليمه إلى عملاء إيران. وحاولت أميركا أوباما تسليم مصر وبلدان المغرب العربي إلى الأحزاب الدينية الشعبوية الرافضة لليبرالية الثقافية الموفقة بين التراث والحداثة. ثم سلمت سوريا لإيران وروسيا. ورفضت تأديب نظام بشار الشعبوي الطائفي الذي استخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. وأخيرا، توصلت أميركا إلى تسوية نووية مع إيران، في مقابل الصمت عن اختراقها لعروبة المشرق. وتهديدها عروبة الخليج واليمن. وكان من نتاج ذلك ازدهار تنظيمات الإسلام الحربي التي روعت العرب قبل العالم بمجازرها الدموية. وتفسيرها وتطبيقها المتزمت للدين. النظام العالمي مهدد بمزيد من الفوضى. والاضطراب. هل تستطيع الرأسمالية تجاوز أزمتها الراهنة. فتستعيد ثقة الشعوب الغاضبة بالديمقراطية التي هي سر نجاحها وبقائها؟ أم تصل إلى الحكم زعامات شعبوية جديدة، لتنافس القيصر الشعبوي بوتين. ولتضع أصابعها على الزناد النووي؟ دمرت الشهب الفضائية الحياة على الأرض قبل ملايين السنين. لا تيأس، يا بني، إذا دمرت الشعبوية هذا الكوكب مرة أخرى. فسيعمر أحفادك الحياة على الأرض. لكن بعد ملايين السنين.

مشاركة :